قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ. ثُمَّ قَدْ جَاءَ بَعْدَهُ مَنْ تَعَقَّبَ أَقْوَالَهُ فَبَيَّنَ مِنْهَا مَا كَانَ خَطَأً عِنْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حِفْظًا لِهَذَا الدِّينِ، حَتَّى يَكُونَ أَهْلُهُ كَمَا وصفهم الله به {َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} (?) فَمَتَى وَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ مُنْكَرٌ خَطَأً أَوْ عمداً أنكره عليه غيره.
وليس العلماء بأعظم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين. فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا} (?) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ الله عنه - ما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ عَامَ الْخَنْدَقِ: ((لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرد مِنَّا تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ، فصلُّوا فِي الطَّرِيقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فصلوا العصر بعد ماغربت الشَّمْسُ، فَمَا عَنَّفَ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ)) (?) فَهَذَا دليل على أن الْمُجْتَهِدِينَ يَتَنَازَعُونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ آثِمًا.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِنَّ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ مَعْصُومَةٌ، وَلَا قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِيهَا، وَإِنَّ مَا خَرَجَ
عَنْهَا بَاطِلٌ، بَلْ إِذَا قَالَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ، كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ واللَيْث بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ قَوْلًا يُخَالِفُ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: ((الصَّحَابَةُ نَصُّوا عَلَى تَرْكِ الْقِيَاسِ)) . يُقَالُ [لَهُ] : الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الْقِيَاسَ قَالُوا: قَدْ ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالرَّأْيِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وقاسوا، كما ثبت عنهم ذم ما ذَمُّوهُ مِنَ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ، فَالْمَذْمُومُ الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِلنَّصِّ، كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَقِيَاسُ إِبْلِيسَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ لَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَقِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: أَتَأْكَلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ؟ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ