فَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أنْ يُقَالَ: إنَّها عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أو التحريم فقط.
- إنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضروريَّات أَوِ الحاجيَّات أَوِ التكميليَّات، فَإِنْ كَانَتْ فِي الضروريَّات فَهِيَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَهِيَ أَدْنَى رُتْبَةٍ بِلَا إِشْكَالٍ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الحاجيَّات فمتوسطة بين الرتبتين.
وأيضاً فإنَّ الضَّرُورِيَّاتِ إِذَا تُؤمِّلت وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التَّأْكِيدِ وَعَدَمِهِ، فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّين، وَلَيْسَ تُستصغر حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّين، فَيُبِيحُ الكفرُ الدمَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مبيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ، فِي الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّينِ.
وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى أنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مبيحٌ لِلْقِصَّاصِ؟ فَالْقَتْلُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ، وَإِذَا نَظَرْتَ فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ وَهَذَا كُلُّهُ مَحَلُّ بَيَانِهِ الأُصول.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي فَكَذَلِكَ يُتصور مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ، فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ (أَيْ أنَّه إِخْلَالٌ بِهَا) وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الحاجيَّات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيَّات، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ.
- فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدين اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيْرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلَا حامٍ} (?) .
- وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِحَل الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا أَنْفُسِهَا بِأَنْوَاعِ العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزع مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، كلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ العُلى - فِي زَعْمِهِمْ - وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْأَكْمَلِ، بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، ومبنيٌ عَلَى أصولٍ لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا وبنوا عليها أعمالهم، وَيَجْرِي مَجْرَى إِتْلَافِ النَّفْسِ إِتْلَافَ بَعْضِهَا، كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَوْ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ من جملة البدع.
- وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّسل مَا ذُكِرَ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْهُودَةً فِيهَا وَمَعْمُولًا بِهَا، وَمُتَّخَذَةً فِيهَا كَالدِّينِ الْمُنْتَسِبِ وَالْمِلَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إبراهيم عليه