وَقَالَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] (?) فالنعمة فضله، والسيئة عدله، وختم الآية بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] بعد قوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] إعْلَامًا بعموم قدرته مع عدله، ففيه إثبات القدر والسبب فأضاف السبب إلى نفوسهم، وعموم القدرة إِلَى نَفْسِهِ، فَالْأَوَّلُ يَنْفِي الْجَبْرَ، وَالثَّانِي يَنْفِي إبطال القدر، فهو مشاكل قَوْلَهُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ - وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] (?) وفي ذكر قدرته نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِيَدِهِ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، وكشف هذا ووضحه بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] (?) وَهُوَ الْإِذْنُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهو أَنْ يَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عِلْمَ عِيَانٍ، فتكلم المنافقون بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَسَمِعَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَمِعُوا رَدَّ الله عليهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يئول إليه، فَلَلَّهِ كَمْ مِنْ حِكْمَةٍ فِي ضِمْنِ هَذِهِ القصة ونعمة، وكم فيها من تحذير وإرشاد، ثم عزَّاهم عمن قُتل منهم أحسن تعزية فَقَالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] (?) الآيات فجمع لهم بين الحياة الدائمة، والقرب مِنْهُ وَأَنَّهُمْ عِنْدَهُ، وَجَرَيَانَ الرِّزْقِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِمْ، وَفَرَحَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَهُوَ فَوْقَ الرِّضَى، وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ بِاجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ، يَتِمُّ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ، وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَا يُجَدِّدُ لَهُمْ كُلَّ وقت من نعمه وكرامته.
وذكّرهم سبحانه في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمه عليهم، التي لو قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية لتلاشت في جنب هذه النعمة، وهي إرسال رسول من أنفسهم، وكل بليّة بعد هذا الخير العظيم أمر يسير جدا في جنب هذا الخير الكثير، فأعلمهم أن المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقدره ليوحدوا ويتكلوا، وأخبرهم بما له من الحِكم لئلا يتهموه في فضله وقدره، وليتعرف