من كل صنف من كل أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لهم حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيدة أو غدرة، على أن لا يهدم لَهُمْ بِيعَةٌ، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ، وَلَا يفتنون عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يأكلوا الربا، ففيه دليل على انتقاض عهد أهل الذمة بإحداث الحدث، وأكل الربا إذا شرط عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا وَجَّهَ معاذا إِلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَارًا أَوْ قيمته من المعافري وهي ثياب باليمن، ففيه أنها غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْجِنْسِ وَلَا الْقَدْرِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا وَذَهَبًا وَحُلَلًا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ بحسب حاجة المسلمين، وحال من تؤخذ منه، ولم يفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خُلَفَاؤُهُ فِي الجزية بين العرب وغيرهم، بل أخذها من مجوس هجر وهم عرب، فإن العرب كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَدِينُ بِدِينِ مَنْ جَاوَرَهَا من الأمم، فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتهم فَارِسَ، وَتَنُوخَ وَبُهْرَةَ وَبَنُو تَغْلِبَ نَصَارَى لِمُجَاوَرَتِهِمْ الروم، وكانت قبائل من اليمن يهودا لمجاورتهم ليهود اليمن، فلم يَعْتَبِرْ آبَاءَهُمْ وَلَا مَتَى دَخَلُوا فِي دِينِ أهل الكتاب، وثبت أَنَّ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنْ تَهَوَّدَ أَبْنَاؤُهُمْ بَعْدَ النسخ بشريعة عيسى، فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] (?) الآية، وقوله: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا» دَلِيلٌ عَلَى أنها لا تؤخذ من صبي ولا من امرأة، واللفظ الذي روي فيه: «من كل حالم أو حالمة» لَا يَصِحُّ وَصْلُهُ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا سَائِرُ الرُّوَاةِ، وَلَعَلَّهَا مِنْ تَفْسِيرِ بعضهم.
فصل
في ترتيب هَدْيِهِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ بالدين إلى أن لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] (?) فأرسله بها، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، فأنذر قومه، ثم أنذر من حوله من الْعَرَبَ قَاطِبَةً، ثُمَّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ، فَأَقَامَ بِضْعَ عشرة سنة ينذر بغير قتال،