وكان غزوهم بأمره - صلى الله عليه وسلم - ضَمِنَهُمْ بِنِصْفِ دِيَاتِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَجْرَاهُمْ في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين عصموا بالذمة لا بالإسلام، وَلَمْ يَقْتَضِ عَهْدُ الصُّلْحِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى من حاربهم ممن ليس في قبضته، ففيه أن المعاهدين إذا غزاهم من ليس تَحْتَ قَهْرِ الْإِمَامِ وَفِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ردهم عنهم، ولا ضمان ما أتلفوه.
وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب والمصالح والسياسات من هديه أولى من الآراء، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِ مُلُوكِ المسلمين، وبعض أهل الذمة عهد، جاز لملك آخر لا عهد بينه وبينهم أن يغزوهم، كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي نَصَارَى ملطية مستدلا بقصة أبي بصير وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ والسلاح، وشرط أن لا يكتموا ما فعلوا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، فغيّبوا مسكا، فيه مال لحيي بن أخطب احتمله معه حين أجليت النضير، فسأل عمّ حيي عنه، فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، فَقَالَ: «الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أكثر من ذلك» ، فدفعه إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال: رأيت حُيَيًّا يطوف في خربة هاهنا، فوجدوه فيها، فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا نكون فيها نصلحها، فنحن أعلم بها، ولم يكن له ولا لأصحابه غلمان يكفونهم، فدفعها إليهم على الشطر من كل ما يخرج منها من ثمر وزرع وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وَعَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا مَا شَاءَ، وَلَمْ يعمُّهم بِالْقَتْلِ، كَمَا عمَّ قُرَيْظَةَ لِاشْتِرَاكِ أُولَئِكَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فالذين علموا بالمسك وغيّبوه، وشرطوا له أنه إن ظهر، فلا ذمة لهم، قتلهم بشرطهم، ولم يعم أهل خيبر، فإنه من المعلوم أن جميعهم لم يعلموا بالمسك، فهذا نظير الذمي والمعاهد إذا نقض، ولم يمالئه عليه غيره.
ودفع الأرض على النصف دليل ظاهر في جواز المساقات وَالْمُزَارَعَةِ، وَكَوْنِ الشَّجَرِ نَخْلًا لَا أَثَرَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، فَبَلَدٌ شَجَرُهُمُ الأعناب والتين، وغيرهما حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمُ النَّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ.
وفيه أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الأرض، فإنه لم يعطهم