وكانت غزوة كل طائفة منهم عقب غزوة من الغزوات الكبار، فبنو قينقاع بعد بدر، وبنو النضير عقب أحد، وقريظة عقب الخندق.
وكان هديه إِذَا صَالَحَ قَوْمًا، فَنَقَضَ بَعْضُهُمْ عَهْدَهُ وَصُلْحَهُ، وأقرّهم الباقون، ورضوا به، غزا الجميع، كما فعل بقريظة والنضير وأهل مَكَّةَ، فَهَذِهِ سُنَّتُهُ فِي أَهْلِ الْعَهْدِ.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الذمة كما صرح به أصحاب أحمد وغيرهم، وخالف أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَخَصُّوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِمَنْ نَقَضَهُ خَاصَّةً دُونَ مَنْ رَضِيَ بِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة آكد، والأول أصوب، وبهذا أفتينا ولي الأمر لما أحرق النصارى أموال المسلمين بالشام، وعلم بذلك من علم منهم، وواطؤوا عليه، ولم يعلموا به ولي الأمر، وأن حده القتل حتما، ولا يخيّر الإمام فِيهِ، كَالْأَسِيرِ بَلْ صَارَ الْقَتْلُ لَهُ حَدًّا.
وَالْإِسْلَامُ لَا يُسْقِطُ الْقَتْلَ إِذَا كَانَ حَدًّا ممن هو تحت الذمة ملتزما أحكام الملة، بخلاف الحربيّ إذا أسلم فهذا له حكم، والذمي الناقض له حكم آخر، وهذا الذي تقتضيه نصوص أحمد، وأفتى به شيخنا في غير موضع.
وكان هديه إذا صالح قوما، فَانْضَافَ إِلَيْهِمْ عَدُوٌّ لَهُ سِوَاهُمْ، فَدَخَلُوا مَعَهُمْ، وانضاف إليه آخرون، صَارَ حُكْمُ مَنْ حَارَبَ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي عَقْدِهِ مِنَ الْكُفَّارِ حُكْمَ مَنْ حَارَبَهُ، وبهذا السبب غزا أهل مكة، وبهذا أفتى شيخ الإسلام بِغَزْوِ نَصَارَى الْمَشْرِقِ لَمَّا أَعَانُوا عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ من التتار على قتالهم، وأمدوهم بالمال والسلاح ورأوهم بذلك ناقضين للعهد، فَكَيْفَ إِذَا أَعَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حرب المسلمين.
وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ رُسُلُ أَعْدَائِهِ، وَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ، فَلَا يُهِيجُهُمْ وَلَا يَقْتُلُهُمْ، وَلَمَّا قَدِمَ عليه رسولا مسيلمة، فتكلما بما قالا، قال: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» ، فجرت سنته أن لا يقتل رسول.
وكان هديه أن لا يحبس الرسول عنده إذا اختار دينه، بل يرده، كما قال أبو رافع: بعثتني قريش إليه، فوقع فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أرجع، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ» . قَالَ أبو داود: وكان هذا في المدة التي اشترط لهم أن يرد إليهم من جاء منهم، وأما اليوم فلا يصح هذا.
وفي