-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] (مِنْ) صِلَةٌ أَيْ ذُنُوبِكُمْ، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يُبْعَثْ قَبْلَهُ نَبِيٌّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ، فقال: لَيْسَ لَهُمْ ثَوَابٌ إِلَّا نَجَاتُهُمْ من النار، وَحَكَى سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ قَالَ: الْجِنُّ ثَوَابُهُمْ أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا ترابا، وهذا مثل البهائم. وَقَالَ الْآخَرُونَ. يَكُونُ لَهُمُ الثَّوَابُ فِي الْإِحْسَانِ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِمُ العقاب في الإساءة كالإنس. وَقَالَ جَرِيرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: الْجِنُّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ حَوْلَ الْجَنَّةِ فِي رَبَضٍ وَرِحَابٍ وَلَيْسُوا فِيهَا.
[32] {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32] لَا يُعْجِزُ اللَّهَ فَيَفُوتُهُ، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف: 32] أَنْصَارٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32]
[33] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] لَمْ يَعْجِزْ عَنْ إِبْدَاعِهِنَّ، {بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] هَكَذَا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ دُخُولِ الْبَاءِ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ للتأكيد، كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تُدْخِلُ الْبَاءَ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعَ الْجَحْدِ فتقول: ما أظنك بقائم {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]
[34] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 34] فَيُقَالُ لَهُمْ، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ} [الأحقاف: 34] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 34]
[35] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. ذَوُو الْحَزْمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَوُو الْجِدِّ وَالصَّبْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ، وَرَأْيٍ وَكَمَالِ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ مِنْ لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْتُ أَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ وَأَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ أُولُو عَزْمٍ إِلَّا يُونُسَ بْنَ مَتَّى لِعَجَلَةٍ كَانَتْ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ المذكورين فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ وَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَقِيلَ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ، وَإِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ