من النار، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7] تَسْتَدْفِئُونَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الشِّتَاءِ.
[8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] أَيْ بُورِكَ عَلَى مَنْ فِي النَّارِ أَوْ مَنْ فِي النَّارِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَارَكَهُ اللَّهُ وَبَارَكَ فِيهِ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْبَرَكَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى وَالْمَلَائِكَةِ، مَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي مَنْ طَلَبَ النَّارَ، وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَنْ حَوْلَهَا وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِيكَ يَا مُوسَى وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَوْلَ النَّارِ، وَهَذَا تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى بِالْبَرَكَةِ، كَمَا حَيَّا إِبْرَاهِيمَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّارِ النور، وذكر بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نارا، ومن فِي النَّارِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّورَ الَّذِي رَآهُ مُوسَى كَانَ فِيهِ مَلَائِكَةٌ لَهُمْ زَجَلٌ بالتقديس والتسبيح، ومن حولها مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَقِيلَ: مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا جَمِيعًا الْمَلَائِكَةُ وَقِيلَ: مَنْ فِي النَّارِ موسى ومن حَوْلَهَا الْمَلَائِكَةُ، وَمُوسَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّارِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْمَنْزِلَ إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ بَعْدُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ بُورِكَتِ النَّارُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقْرَأُ: أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَ (مَنْ) قَدْ يأتي بمعنى ما وَ (مَا) قَدْ يَكُونُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} [ص: 11] وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي النَّارِ وَفِيمَنْ حَوْلَهَا وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وموسى عليه السَّلَامُ، وَسَمَّى النَّارَ مُبَارَكَةً كَمَا سَمَّى الْبُقْعَةَ مُبَارَكَةً فَقَالَ: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص: 30] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] يَعْنِي قُدِّسَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ اللَّهُ عَنَى بِهِ نَفْسَهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَادَى مُوسَى مِنْهَا وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ جِهَتِهَا، ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ مَنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَيْبٍ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَى مُوسَى بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ:
[9] {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ) عِمَادٌ وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَقِيلَ: هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ، أَيِ الْأَمْرُ والشأن أي المعبود أنا، ثُمَّ أَرَى مُوسَى آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ، فَقَالَ:
[10] {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل: 10] تتحرك، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النَّمْلِ: 10] وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يَكْثُرُ اضْطِرَابُهَا، {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل: 10] وهرب من الخوف، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] ولم يَرْجِعْ، يُقَالُ: عَقِبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، وَكُلُّ رَاجِعٍ مُعَقِّبٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] يريد إذا آمنهم لَا يَخَافُونَ أَمَّا الْخَوْفُ