فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب» الحديث، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قَالَ: السِّرُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: {تَضَرُّعاً} تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ {وَخُفْيَةً} يَقُولُ: بِخُشُوعِ قُلُوبِكُمْ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، لَا جِهَارًا مراءاة. وقال الحسن البصري: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقُهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّرُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَّا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ، فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً}، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ والصياح في الدعاء، ويأمر بالتضرع والاستكانة، {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاءِ وَلَا في غيره.
وقال الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كثيراً، وتعوذت به مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} الآية - وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل" (رواه أحمد وأبو داود)، وسمع عبد الله بن مغفل ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدعاء والطهور» (رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود قال ابن كثير: وإسناده حسن)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية، وَقَالَ: {قَرِيبٌ} وَلَمْ يَقُلْ: (قَرِيبَةٌ) لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ. وَقَالَ مطر الوراق: استنجزوا مَوْعُودَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قريب من المحسنين.