- 74 - ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ -[79]- وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} كُلِّهِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ التِي لَا تَلِينُ أَبَدًا، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ حَالِهِمْ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} فَصَارَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْأَمَدِ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنِ الْمَوْعِظَةِ، بَعْدَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَهِيَ فِي قَسْوَتِهَا كَالْحِجَارَةِ التِي لَا عِلَاجَ لِلِينِهَا، أَوْ أشدَّ قَسْوَةً من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، وَمِنْهَا مَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَفِيهِ إِدْرَاكٌ لذلك بحسبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يسبِّح بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا} والمعنى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنَ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تُدْعون إليه من الحق.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْحِجَارَةِ كَمَا أُسْنِدَتِ الْإِرَادَةُ إِلَى الْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ: {يُرِيدُ أن ينقض} قال الرازي والقرطبي: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأشفقن منها} وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فيهن} الآية، وقال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ}، وقال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} وَفِي الصَّحِيحِ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ الْمُتَوَاتِرِ خَبَرُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عليَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، وَفِي صِفَةِ الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بِحَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي معناه.
(تَنْبِيهٌ) اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا لِلشَّكِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ (أو) ههنا بِمَعْنَى الْوَاوِ تَقْدِيرُهُ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وقوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وكما قال جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا * كَمَا أَتَى ربَّه مُوسَى عَلَى قَدَرَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي نَالَ الْخِلَافَةَ وكانت له قدراً، وقال آخرون: (أو) ههنا بمعنى بل فتقديره: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَكَقَوْلِهِ: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خشية} {وأرسلناه إلى مائة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى}، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} عِنْدَكُمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ منها في القسوة، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَقَدْ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَعَ تَوْجِيهِ غَيْرِهِ، (قُلْتُ) وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَبْقَى شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا} مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء}، وكقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، مَعَ قَوْلِهِ {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لجِّي} الْآيَةَ أَيْ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ هَكَذَا ومنهم من هو هكذا، والله أعلم. عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، -[80]- فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وإنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ من الله القلب القاسي» (رواه ابن مردويه والترمذي في كتاب الزهد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابراهيم) وروي مرفوعاً: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل والحرص على الدنيا" (رواه البزار عن أنَس بن مالك مرفوعاً).