استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، هذا وهم معترفون بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ، وَطَهَارَةِ بَيْتِهِ وَمَرْبَاهُ، وَمَنْشَئِهِ صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم يُسَمُّونَهُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ «الْأَمِينَ»، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ رَئِيسُ الْكُفَّارِ (أَبُو سُفْيَانَ) حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا .. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الذي استدل مَلِكُ الرُّومِ بِطَهَارَةِ صِفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صدق نبوته وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عن وائلة بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (رواه مسلم وأحمد)، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ». وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: «من أنا؟» قالوا أنت رسول الله، فقال: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خير خلقه، وجعلهم فريقين فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا» صَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (رَوَاهُ الْحَاكِمُ والبيهقي)، وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فبعثه بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قلب محمد فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وزراء نبيه يقاتلوون عن دينه، فما رآه الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء (أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود موقوفاً). وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ رَاعَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يجعل رسالته} (أخرجه ابن أبي حاتم)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} الآية، هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَكَبَّرَ عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ {صَغَارٌ} وَهُوَ الذِّلَّةُ الدَّائِمَةُ كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين ذليلين حقيرين. وقوله تعالى: {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} لَمَّا كَانَ الْمَكْرُ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ خَفِيًّا وَهُوَ التَّلَطُّفُ في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، كما قال تعالى: {يَوْمَ تبلى السرآئر} أَيْ تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ينصب لكل لواء غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هذه غدرة فلان بن فُلَانٍ»، وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَدْرُ خَفِيَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصِيرُ عَلَمًا مَنْشُورًا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فعل.