وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَقَلَهَا عَنْهُ حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} عَلَى مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، وقال عَطَاءٍ {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وَيَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ الْمَجُوسِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ الَّذِي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه} قال: هي الميتة. وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو داود قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ أم لَمْ يَذْكُرْ إِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ، لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ يُعَضَّدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ذَبَحَ الْمُسْلِمُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَأْكُلْ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ»، وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ يأتوننا بِلَحْمٍ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» قَالَ: فَلَوْ كَانَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَذْهَبُ الثالث في المسألة: إِنْ تَرَكَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تَحِلَّ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهوية (وهو مروي عن علي وابن عباس وطاووس والحسن البصري وغيرهم)، وقال ابن جرير رحمه الله: مَنْ حَرَّمَ ذَبِيحَةَ النَّاسِي فَقَدْ خَرَجَ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ، وَخَالَفَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ إِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله وليأكله» (قال ابن كثير: هذا الْحَدِيثُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ مَعْقِلُ بْنُ عبيد الله الجزري والأصح أنه من قول ابن عباس)، ثم نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُمَا كَرِهَا مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيَانًا، والسلف يطلقون الكراهة عَلَى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا أَنَّ مِنْ قَاعِدَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ قَوْلَ الْوَاحِدِ وَلَا الِاثْنَيْنِ مُخَالِفًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، والله الموفق. وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ عند ابن ماجه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسم الله على كل مسلم» (الحديث إسناده ضعيف كما نبه عليه ابن كثير رحمه الله).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}، قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَجَّ (الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) فجاءه رجل، فقال: يا ابن عباس زعم أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ، فَنَفَرْتُ، وَقُلْتُ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ صَدَقَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا وَحْيَانِ، وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَحْيُ الشَّيْطَانِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوليائهم} (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} نَحْوَ هذا. وقوله: {لِيُجَادِلُوكُمْ}، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مِمَّا قَتَلْنَا وَلَا نَأْكُلُ