فأتت النار فأكلته. وَهَذَا السِّيَاقُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} هُوَ الْعَامِلُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ مَكَثُوا لَا يُدْخِلُونَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُمْ تَائِهُونَ في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: خَرَجُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفَتَحَ بِهِمْ بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن (عوج ابن عُنُقٍ) قَتَلَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: فَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ التِّيهِ لِمَا رَهِبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَمَالِيقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التِّيهِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ (بِلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا) أَعَانَ الْجَبَّارِينَ بِالدُّعَاءِ عَلَى موسى، قال: وما ذالك إِلَّا بَعْدَ التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ التِّيهِ لا يخافون من موسى وقومه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تَسْلِيَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ، أَيْ لَا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ؛ مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ لِتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدِهِمْ فَظَهَرَتْ قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه، فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ، وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الوقود، ويقضي لهم فيه بِتَأْبِيدِ الْخُلُودِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ جميع الوجود.