النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَعْقِلُ شَيْئًا، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ رَشَّ عليَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي مَالِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث جابر}
(حديث آخر) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يوم أُحد شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا يُنْكَحَانَ إِلَّا وَلَهُمَا مال، فقال: «يقضي الله في ذلك» فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فهو لك» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أَيْ يَأْمُرُكُمْ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَجْعَلُونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ للذكر دُونَ الْإِنَاثِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الْمِيرَاثِ، وَفَاوَتَ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَذَلِكَ لِاحْتِيَاجِ الرَّجُلِ إِلَى مُؤْنَةِ النَّفَقَةِ وَالْكُلْفَةِ، وَمُعَانَاةِ التِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ، تحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ بخلقه من الوالدة بولدها، حَيْثُ أَوْصَى الْوَالِدَيْنِ بِأَوْلَادِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرْحَمُ بهم منهم. وقال البخاري عن ابن عباس: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ؛ فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن الربع، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس: لَمَّا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا مَا فَرَضَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْأَبَوَيْنِ كَرِهَهَا النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ وَقَالُوا: تُعْطَى الْمَرْأَةُ الرُّبُعَ أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يُقَاتِلُ الْقَوْمَ؛ وَلَا يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ؛ اسْكُتُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَاهُ؛ أَوْ نَقُولُ لَهُ فَيُغَيِّرُ! فقالوا: يا رسول الله تعطى الْجَارِيَةَ نِصْفَ مَا تَرَكَ أَبُوهَا؛ وَلَيْسَتْ تَرْكَبُ الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصَّبِيَّ الْمِيرَاثَ وَلَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا؛ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لَا يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلَّا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية.
وَقَوْلُهُ: {فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَوْلُهُ «فَوْقَ» زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ كما في قوله: {فاضربوا فوق الأعناق} وَهَذَا غَيْرُ مسلَّم لَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ زَائِدٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوهُ لَقَالَ فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ: وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ كَوْنُ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ مِنْ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا لِلْأُخْتَيْنِ بِالثُّلُثَيْنِ. وَإِذَا وَرِثَ الْأُخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ فَلَأَنْ يرث البنتان الثلثين بالطريق الْأَولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ لِابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالثُّلُثَيْنِ فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف}، فلو كانت للبنتين النصف لنص عليه أيضاً لما حَكَمَ بِهِ لِلْوَاحِدَةِ عَلَى انْفِرَادِهَا؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِنْتَيْنِ فِي حُكْمِ الثَّلَاثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحد منهما السدس} إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أَحْوَالٌ: (أَحَدُهَا) أَنْ يَجْتَمِعَا مَعَ الْأَوْلَادِ فَيُفْرَضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلَّا بِنْتٌ وَاحِدَةٌ، فُرِضَ