عمه أبو لهب (أخرجه أحمد والطبراني). فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أَيْ خَسِرَتْ وَخَابَتْ وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ، {وَتَبَّ} أَيْ وقد تبّ تحقق خسارته وهلاكه.
وقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قَالَ ابن عباس: {وَمَا كَسَبَ} يعني ولده، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ قَالَ أَبُو لهب: إن كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا فَإِنِّي أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ بِمَالِي وولدي، فأنزل الله تعالى: {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. وَقَوْلُهُ تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أَيْ ذَاتَ شَرَرٍ ولهب وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ سَادَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ (أُمُّ جَمِيلٍ) وَاسْمُهَا (أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ) وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ وَعِنَادِهِ، فَلِهَذَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَوْنًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ولهذا قال تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} يَعْنِي تَحْمِلُ الْحَطَبَ فَتُلْقِي عَلَى زَوْجِهَا لِيَزْدَادَ على ما هو فيه، هي مُهَيَّأَةٌ لِذَلِكَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ، {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} قال مجاهد: مِّن مسد النار، وعن مجاهد وعكرمة {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ (وَاخْتَارَهُ ابْنُ جرير). وقال ابن عباس والضحّاك: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في جيدها من مسد النار، والمسد الليف، وقيل: هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ نَارٍ طُولُهَا سَبْعُونَ ذراعاًَ، قال الْجَوْهَرِيُّ: الْمَسَدُ اللِّيفُ، وَالْمَسَدُ أَيْضًا حَبْلٌ مِنْ ليف أو خوص، وقال مجاهد: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أَيْ طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ، أخرج ابن أبي حاتم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ (أُمُّ جَمِيلٍ) بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَمَّمًا أبيْنا - وَدِينَهُ قليْنا - وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أقبلتْ وَأَنَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي»، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً}، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قريش أني ابنة سيدها، قال: فَعَثَرَتْ أُمُّ جَمِيلٍ فِي مِرْطِهَا وَهِيَ تَطُوفُ بالبيت، فقالت: تعس مذمم (أخرجه ابن أبي حاتم). وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أَيْ في عنقها حبل من نَارِ جَهَنَّمَ تُرْفَعُ بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ ترمى إلى أسفلها، ثم لا تزال كذلك دائماً.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُقَيِّضْ لَهُمَا أَنْ يُؤْمِنَا وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمَا لَا باطناً ولا ظاهراً، لا سراً ولا علناً، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ، عَلَى النبوّة الظاهرة.