يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ، وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، ثَبَّتَنَا اللَّهُ هُنَالِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} إِنْ جَعْلَنَا (كَلَّا) رَادِعَةً فَمَعْنَاهَا: لَسْتَ يَا ابْنَ آدم هناك تكذب بِمَا أُخْبِرْتَ بِهِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عِنْدَكَ عياناً، وإن جعلناها بمعنى (حقاً) فظاهرأي حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ أَيِ انْتُزِعَتْ رُوحُكَ مِنْ جَسَدِكَ وَبَلَغْتَ تَرَاقِيَكَ، وَالتَّرَاقِي جَمْعُ (تَرْقُوَةٍ) وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ كقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}؟ قال ابن عباس: أي من راق يرقي؟ وقال أبو قلابة؟ أَيْ مَنْ طَبِيبٌ شَافٍ (وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والضحّاك وابن زيد). وعن ابن عباس: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ ملائكة العذاب (ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عباس)؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: التفت عليه الدنيا والآخرة، وعنه {والتفت الساق بالساق} يقول: آخر يوم من أيام الدُّنْيَا وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَتَلْتَقِي الشدة بالشدة إلاّ من رحمة اللَّهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ بِبَلَاءٍ، وقال الحسن البصري: هما ساقاك إذا التفتا، وكذا قال السدي عَنِ الْحَسَنِ: هُوَ لَفُّهُمَا فِي الْكَفَنِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أَيِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ تُرْفَعُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخرى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطويل، وقوله جلَّ وعلا: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كذَّب وَتَوَلَّى} هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُكَذِّبًا لِلْحَقِّ بِقَلْبِهِ، مُتَوَلِّيًا عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ بَاطِنًا وَلَا ظاهراً، ولهذا قال تَعَالَى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} أي جذلان أشراً بطراً، لَا هِمَّةَ لَهُ وَلَا عَمَلَ، كَمَا قَالَ تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فكهين}، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي يرجع، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي يختال، وقال قتادة: يَتَبَخْتَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ من الله تعالى للكافر، المتبختر في مشيه، أَيْ يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَمْشِيَ هَكَذَا وَقَدْ كفرت بخالقك وبارئك، وذلك على سبيل التكهم والتهديد، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}، وكقوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مجرمون} وكقوله جلَّ جلاله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} إلى غير ذلك، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جهل، ثم أنزله الله عزَّ وجلَّ (أخرجه النسائي). وقال قتادة في قَوْلُهُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ أَبَا جَهْلٍ أَخَذَ نبيُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى»، فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ من مشى بين جبليها (أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة).