يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ هَذِهِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ مِنْ غيرها، قال ابن إسحاق: كَانَتِ الْعَرَبُ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها، فكانت لقريش ولبني كنانة (العزى) بنخلة، وكان سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا (بَنِي شَيْبَانَ) مِنْ سُلَيْمٍ حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ، قُلْتُ: بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَدَمَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرى}؟ ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}؟ أَيْ أَتَجْعَلُونَ لَهُ ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر، فَلَوِ اقْتَسَمْتُمْ أَنْتُمْ وَمَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَكَانَتْ {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أَيْ جَوْرًا بَاطِلَةً، فَكَيْفَ تُقَاسِمُونَ رَبَّكُمْ هَذِهِ الْقِسْمَةَ، الَّتِي لَوْ كَانَتْ بَيْنَ مَخْلُوقِينَ كَانَتْ جَوْرًا وَسَفَهًا؟
ثُمَّ قَالَ تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَسْمِيَتِهَا آلِهَةً {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أَيْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أَيْ مِنْ حُجَّةٍ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} أي ليس له مُسْتَنَدٌ إِلَّا حُسْنَ ظَنِّهِمْ بِآبَائِهِمُ، الَّذِينَ سَلَكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ الْبَاطِلَ قَبْلَهُمْ، وَإِلَّا حَظَّ نُفُوسِهِمْ وَتَعْظِيمِ آبَائِهِمُ الْأَقْدَمِينَ، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَّبِّهِمُ الْهُدَى} أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، بِالْحَقِّ الْمُنِيرِ وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَمَعَ هَذَا مَا اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له، ثم قال تعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَمَنَّى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} وَلَا كُلُّ مَنْ وَدَّ شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ، كما روى: «إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنِيَتِهِ» (تفرد به الإمام أَحْمَدُ). وَقَوْلُهُ: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} أَيْ إِنَّمَا الْأَمْرُ كُلَّهُ للَّهِ، مَالِكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُتَصَرِّفِ فيهما، وقوله تَعَالَى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى}، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له} فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ - أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - شَفَاعَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ والأنداد عِندِ الله؟ وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها؟