وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُونَهُمْ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ ينتهوا، قال، فجاءه دجين، فقال: إني قد نهيتهم وَإِنِّي دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ، فَتَأْخُذُهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قبرها» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي). {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أَيْ عَلَى بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَالتَّجَسُّسُ غَالِبًا يُطْلَقُ فِي الشَّرِّ وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب: {يَا بنيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله}. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: التَّجَسُّسُ الْبَحْثُ عَنِ الشَّيْءِ، وَالتَّحَسُّسُ الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمع على أبوابهم، والتدابر: الصرم.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَقَدْ فَسّرها الشَّارِعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بهتّه». وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ، قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ». قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنساناً، وإن لي كذا وكذا» (أخرجه أبو داود والترمذي). وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ: «ائْذَنُوا له بئس أخو العشيرة»، وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»، وَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَقِيَّتُهَا عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فيها الزجر الأكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بِأَكْلِ اللَّحْمِ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} أَيْ كَمَا تَكْرَهُونَ هَذَا طَبْعًا فَاكْرَهُوا ذَاكَ شَرْعًا، فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ وجه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شهركم هذا، في بلدكم هذا».
وروى أبو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، مَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَدَمُهُ، حَسْبُ امْرِئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب). وعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي بُيُوتِهَا، أَوْ قَالَ: فِي خُدُورِهَا، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ لَا تَغْتَابُوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتْبَعِ الله عورته يفضحه في جوف بيته» (رواه الحافظ أبو يعلى وأبو داود بنحوه).
(طريق أُخْرى): عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتْبَعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ