عَزْمِ الْأُمُورِ
- 18 - وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
- 19 - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحمير
هذه وصايا نافعة حكاها الله سبحانه عَنْ (لُقْمَانَ الْحَكِيمِ) لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ: {يَا
بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أَيْ إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أَيْ أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ لِطَيْفُ الْعَلَمِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ، وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، {خَبِيرٌ} بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف عمله، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ عَمَلُهُ للناس كائناً ما كان" (أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً)، ثُمَّ قَالَ: {يَا بنيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أَيْ بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَيْ بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} لأن الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أَيْ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزْمِ الأمور.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أََلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ»، قال ابن عباس يقول: لا تتكبر فتحتقر عِبَادَ اللَّهِ وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}: لا تتكلم وأنت معرض، وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشدق في الكلام، والصواب القول الأول، قال الشاعر (هو عمرو بن حيي التَّغْلَبِيِّ):
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صعَّر خَدَّهُ * أَقَمْنَا له من ميله فتقوما
وقوله تعالى: رولا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ {فَخُورٍ} أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}. عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» فَقَالَ رَجُلٌ