- 282 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَحْدَثَ القرآن بالعرش آية الدَّين.
فقوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إذا تداينم بدين أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلَاتٍ مُؤَجَّلَةٍ أَنْ يَكْتُبُوهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لِمِقْدَارِهَا وَمِيقَاتِهَا وَأَضْبُطَ لِلشَّاهِدِ فِيهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أن لا ترتابوا}، وقال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي السَّلَمِ إلى أجل معلوم، وقال قتادة عن ابن عباس: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثمار السنة والسنتين وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وَقَوْلُهُ: {فَاكْتُبُوهُ} أمر منه تعالى بالكتابة لِلتَّوْثِقَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدِّين مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ -[253]- أَصْلًا، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِكِتَابَتِهِ إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأُمِرُوا أَمْرَ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ إِيجَابٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَنِ ادَّانَ فَلْيَكْتُبْ وَمَنِ ابْتَاعَ فليُشْهد، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ (أَبَا سُلَيْمَانَ الْمَرْعَشِيَّ) كَانَ رَجُلًا صَحِبَ كَعْبًا فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يُشْهد وَلَمْ يَكْتُبْ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ، وقال الحسن وابن جريج: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}. والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد.
قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتن بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ؟ قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً. قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زجَّج (أصلح موضع ما نقره) مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللهم إنك قد علمت أين اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا تَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مركباً قبل الذي أتت فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إليَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ في الخشبة فانصرف بألفك راشداً (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الجزم)
وقوله تعالى: {فليكتب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أَيْ بِالْقِسْطِ وَالْحَقِّ وَلَا يَجُرْ فِي كِتَابَتِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَكْتُبْ إِلَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يكتب أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أَيْ وَلَا يَمْتَنِعْ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ وَلَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَمَا علَّمه اللَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلْيَكْتُبْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُعِينَ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعَ لِأَخْرَقَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَوْلُهُ: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، أَيْ وَلْيُمْلِلِ الْمَدِينُ عَلَى الْكَاتِبِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أَيْ لَا يَكْتُمُ مِنْهُ شَيْئًا، -[254]- {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً} محجوراً عليه بتبذيره وَنَحْوِهِ {أَوْ ضَعِيفاً} أَيْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} إِمَّا لِعَيٍّ أَوْ جَهْلٍ بِمَوْضِعِ صَوَابِ ذَلِكَ مِنْ خطئه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل}.
وقوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رجالكم} أم بالاستشهاد مَعَ الْكِتَابَةِ لِزِيَادَةِ التَّوْثِقَةِ، {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ لِنُقْصَانِ عَقْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قال مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: «أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهَا فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نقصان الدين».
وقوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ، وَهَذَا مقيَّد حكَم بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كُلِّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ، وَقَدِ استدل من رد المستور بهذه الآية الدلالة عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا مُرْضِيًا. وَقَوْلُهُ: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} يَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا نَسِيَتِ الشَّهَادَةَ {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أَيْ يَحْصُلُ لَهَا ذكر بما وقع به من الإشهاد.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ}، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ فَعَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ، وَهُوَ قول قتادة والربيع، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ}، ومن ههنا استفيد أن تحمُّل الشهادة فرض كفاية، قيل: هو مذهب الجمهور والمراد بِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ} لِلْأَدَاءِ لِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ: {الشُّهَدَاءُ} وَالشَّاهِدُ حَقِيقَةً فِيمَنْ تَحَمَّلَ فَإِذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ، وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وقال مجاهد: إِذَا دُعِيتَ لِتَشْهَدَ فَأَنْتِ بِالْخِيَارِ، وَإِذَا شَهِدْتَ فَدُعِيتَ فَأَجِبْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْألها»، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُستشهَدوا»، وَكَذَا قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ تَسْبِقُ أَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ وَتَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يستشهدون» فهؤلاء شهود الزور.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيرًا إلىأجله} هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِكِتَابَةِ الْحَقِّ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، فَقَالَ: {وَلاَ تسأموا} أي لا تملوا أن تكبوا الْحَقَّ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى أَجَلِهِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ لِلْحَقِّ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، هُوَ {أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} أي أعدل، {,أقوم لِلشَّهَادَةِ} أي أثبت للشاهد إذا ووضع خَطَّهُ ثُمَّ رَآهُ تَذَكَّرَ بِهِ الشَّهَادَةَ لِاحْتِمَالِ إنه لو لم يكتبه أن نساه كما هو الواقع غالباً، {وأدنى أن لا تَرْتَابُوا} وَأَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الرِّيبَةِ بَلْ تَرْجِعُونَ عند التنازع إلى الكتب الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِلَا رِيبَةٍ.
-[255]- وَقَوْلُهُ تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حاضرة تديرونا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا} أَيْ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالْحَاضِرِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِعَدَمِ الْكِتَابَةِ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ فِي تَرْكِهَا.
فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَدْ قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يَعْنِي أَشْهَدُوا عَلَى حَقِّكُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ أَجَلٌ أَوَ لَمْ يَكُن فيه أجل، فأشهدوا على حقكم على كل حال، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ: هَذَا الْأَمْرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي ائتمن أَمَانَتَهُ}، وَهَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ليقضيه ثم فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَهُ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمُ الْأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعربي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ، وَإِلَّا بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ منه؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ»، فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، فَطَفِقَ الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني بايعتك. فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: وَيْلَكَ إِنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ فَاسْتَمَعَ لِمُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَاجَعَةِ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بعايعتك، قَالَ خُزَيْمَةُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ «بِمَ تَشْهَدُ»؟ فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادة خزيمة بشهادة رجلين (رواه الإمام أحم) ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَرَجُلٌ أقرض رجلا مالاً فلم يُشهد" (قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولم يخرجاه).
وقوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَلَا الشَّاهِدُ فَيَكْتُبُ هَذَا خِلَافَ مَا يُمْلَى، وَيَشْهَدُ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَمِعَ، أَوْ يَكْتُمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقتادة، وقيل: معناه لا يُضِر بهما.
وقوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أَيْ إِنْ خالفتم ما أمرتم به، أو فعلتم مَا نَهِيتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ فِسْقٌ كَائِنٌ بِكُمْ، أَيْ لَازِمٌ لَكُمْ لَا تَحِيدُونَ عَنْهُ وَلَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ وَاتَّبِعُوا أَمْرَهُ وَاتْرُكُوا زَجْرَهُ، {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} كَقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فرقانا} وَكَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تمشون به}، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَعَوَاقِبِهَا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميع الكائنات.