اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ (تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية)، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا؛ ولا منافاة بين هذا وما تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي هَذَيْنَ الْيَوْمَيْنِ - يَوْمِ الممات ويوم المعاد - تتجلى للمؤمنين والكافرين، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَتُخْبِرُ الْكَافِرِينَ بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أَيْ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِينَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ الْفَلَّاحُ الْيَوْمَ، وَأَصْلُ الْحِجْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعَهُ التصرف، إما لسفهٍ أو صغرٍ أو نحو ذلك؛ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعَقْلِ (حِجْر) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ} عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} الآية، هذا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَنْجَاةٌ لَهُمْ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَقَدَتِ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ إِمَّا الْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَإِمَّا الْمُتَابَعَةُ لِشَرْعِ اللَّهِ، فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا وَعَلَى الشريعة المرضية فهو باطل، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: شُعَاعُ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الكوة. وكذا قال الحسن البصري: هو شعاع في كوة أحدكم وَلَوْ ذَهَبَ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: هُوَ الْمَاءُ المهراق، وقال قتادة: أما رأيت يبس الشَّجَرِ إِذَا ذَرَتْهُ الرِّيحُ؟ فَهُوَ ذَلِكَ الْوَرَقُ. وروى عبد الله بن وهب عن عبيد بن يعلى قال: إن الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وَحَاصِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَضْمُونِ الْآيَةِ، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحكم الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا إذا بها لَا شَيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَشُبِّهَتْ فِي ذَلِكَ بِالشَّيْءِ التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئاً}.
وقوله تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} وذلك أن أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرُفَاتِ الْآمِنَاتِ، فَهُمْ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الْمَقَامِ {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَاتِ {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ مَنْظَرًا وَبِئْسَ الْمَقِيلُ مَقَامًا، ولهذا قال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَبَّلَةِ نَالُوا مَا نَالُوا وَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إليه بخلاف أهل النار، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِحَالِ السُّعَدَاءِ عَلَى حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُمْ بالكلية، فقال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، قال ابن عباس، إنما هي ساعة فيقبل أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مَعَ الْحَورِ الْعَيْنِ، ويقبل أَعْدَاءُ اللَّهِ مَعَ الشَّيَاطِينِ مُقْرَّنِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَفْرَغُ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ نِصْفَ النهار فيقيل