لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَيِ الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كَمَا قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشهيق}، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ من المؤمنين بالله ورسوله، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وقال: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ مآبهم وثوابهم ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ حريقها في الأجساد، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ حَسَ حَسَ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثِيًّا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ كَمَا قَالَ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها وَارِدُونَ}، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وجل، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ عَلَيْهِمَا السلام. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الضحّاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ؟ وَعَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يعقل عند العرب. وَقَوْلُهُ: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قِيلَ: الْمُرَادُ بذلك الموت، قاله عَطَاءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ النَّفْخَةُ فِي الصور، قاله ابن عباس وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَقِيلَ: حِينَ تُطْبِقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ سعيد بن جبير وابن جريج، وَقَوْلُهُ: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} يَعْنِي تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.