عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السَّلَامُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ القصتين مناسبة ومشابهة، لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قصة ولادة أمها لها في سورة آلِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً أَيْ تَخْدُمُ مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك (ذكر السهيلي: إن القرآن لم يذكر امرأة باسمها إلا (مريم ابنة عمران) فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعاً، لحكمة ذكرها بعض الأشياخ، وذكر أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال، ولم يصونوا أسماء الإماء عن الذكر، فصرح الله باسم مريم لما قالت النصارى في مريم تأكيداً لعبوديتها، وإجراء الكلام على عادة العرب من ذكر إمائها، وتكرر ذكر عيسى منسوباً إلى أمه لتشعر القلوب بنفي أبوة الله وبنزاهة أمه الطاهرة عن مقالة اليهود) {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ونشأت في بني إسرئيل نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمَشْهُورَاتِ بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرئيل إِذْ ذَاكَ وَعَظِيمِهِمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ كَمَا تقدم بيانه في سورة آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحكمة الْبَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أَيِ اعتزلتهم، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذه هي العلة في توجه النصارى جهة المشرق). وعنه قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَكَاناً شَرْقِياً} شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً} أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ والضحاك {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا}: يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قلبلك لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، {قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ إِنْ كُنْتَ تَخَافُ الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حِينَ قالت:
{إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} أَيْ فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا، لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إليك {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً}، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام} أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا، وَقَالَتْ كَيْفَ