بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك، وَمَتَى بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ قَعَدْتَ بِلَا شيء تنفقه (فسر ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج الآية بأن المراد هنا البخل والسرف) فَتَكُونَ كَالْحَسِيرِ، وَهُوَ الدَّابَّةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ عَنِ السَّيْرِ فَوَقَفَتْ ضَعْفًا وَعَجْزًا، فَإِنَّهَا تُسَمَّى الْحَسِيرَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَالِ، كَمَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل عن أن يرى عيباً، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ من ثديهما إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ» (هَذَا لَفْظُ البخاري في الزكاة). وفي الصحيحين عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ،

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ». وَفِي صَحِيحِ مسلم،

قال رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اللَّهَ قَالَ لِي: أَنفق أُنفق عَلَيْكَ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أعط ممسكاً تلفاً"، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ الله عبداً أنفق إلا عزً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ». وَفِي حَدِيثِ عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو). وروى البيهقي عن الأعمش، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ صَدَقَةً حتى يفك لحي سبعين شيطاناً». وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد»، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} إِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيُغْنِي مَنْ يشاء ويفقر مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ». وَقَدْ يَكُونُ الْغِنَى فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ اسْتِدْرَاجًا، وَالْفَقْرُ عُقُوبَةً عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هذا وهذا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015