أثبتنا السمع والبصر لله شبهناه بمخلوقاته! وهذا ما فعلته المعتزلة تماما, فإنهم تأولوهما بالعلم تنزيها له تعالى عن المشابهة, زعموا, وبذلك آمنوا بالطرف الأول من الآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولم يؤمنوا بالطرف الآخر منها {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأما الأشاعرة وغيرهم من الخلف, فقد آمنوا بكل ذلك هنا فجمعوا بين التنزيه والإثبات قائلين سمعه ليس كسمعنا, وبصره ليس كبصرنا. فهذا هو الحق وكان عليهم طرد ذلك في كل ما وصف الله به نفسه, فيقال: مجيئه تعالى حق ولكنه ليس كمجيئنا, ونزوله إلى السماء الدنيا حق لتواتر الأحاديث بذلك كما يأتي في الكتاب ولكن ليس كنزولنا, وهكذا في كل الصفات, ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع الأسف في كثير من الصفات, منها ما نحن فيه فتأولوه بما سبق, أو بغيره 1 ومنها الاستواء الآتي ذكره قريبا.

هذا هو المثال الأول:

وأما المثال الآخر فقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقوله فتأولوه "الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش ". فقد تأول الخلف الاستواء المذكور في هاتين الآيتين ونحوهما بالاستيلاء وشاع عندهم في تبرير ذلك إيرادهم قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

بغير سيف ودم مهراق!

متجاهلين اتفاق كلمات أئمة التفسير والحديث واللغة على إبطاله, وعلى أن المراد بالاستواء على العرش إنما هو الاستعلاء والارتفاع عليه, كما سترى أقوالهم مروية في الكتاب عنهم بالأسانيد الثابتة قرنا بعد قرن, وفيهم من نقل اتفاق العلماء عليه. مثل الإمام إسحاق بن راهويه "الترجمة 67", والحافظ ابن عبد البر "الترجمة 151" وكفى بهما حجة في هذا الباب.

ومع ذلك فإننا لا نزال نرى علماء الخلف -إلا قليلا منهم- سادرين في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015