ويمكن أن يُرد على أدلة الأقوال الأخرى بما يلي: فالقول الثاني الذي قيدها بالحج نقول له: هذا قول وجيه جداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتمرن الظعينة) لكن الرد عليه: هو أننا نقول بالعموم، سواء في الحج أو في غيره، سواء أسافر يوماً وليلة، أم سافر بالطائرة، أم بالسيارة، أم بالبعير، فكله يحرم السفر فيه على المرأة مع ذي محرم، فجاءوا وقالوا: نحن نوافقكم على هذا، لكن في الحج فقط يصح لها أن تسافر لتخصيص الحديث بذلك.
والرد عليهم في ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام في خطبة عن الحج -وقول النبي صلى الله عليه وسلم نص في المسألة- قال: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم.
فقام رجل فقال: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة كذا وامرأتي ذهبت حاجة.
قال: ارجع فحج مع امرأتك) فلو كان الحج يغتفر فيه الأمان لاغتفر هنا.
ووجه الدلالة يرجع إلى قاعدة مهمة جداً قعدها الشافعي وهي: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، بمعنى: عندما قام الرجل فقال: (يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وامرأتي ذهبت حاجة، فهل قال له النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا هذا! أذهبت مع صحبة آمنة؟ فقال الرجل: لا.
قال: ارجع فحج مع امرأتك) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصله أصحبة آمنة كانت معها أم لا؟ فأصبح الحكم عندنا سواء، أي: سواء كانت صحبة آمنة أم غير آمنة، فلا بد أن ترجع وتحج مع امرأتك، ولو كان في الاستفصال تغيير الحكم لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أذهبت مع بعض النساء اللاتي تأمن على نفسها معهن؟ فلما لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قلنا بعموم الحرمة في الجميع.
الوجه الثاني: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتمرن الظعينة) ليس لكم فيه حجة؛ لأن هذا الدليل ليس من باب الإنشاء وإنما من باب الخبر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحكي خبراً سيحدث كما يقول: (بين يدي الساعة سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن الخائن ويخون الأمين) فيخبر عن هذا، ويقول: (وينطق الرويبضة) فهذا خبر لا يحتمل الكذب فقط، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: مري بضعينتكِ إن أمنتِ على نفسكِ وطوفي بالبيت، بل أخبر أن في بعض الأزمنة سيحدث أن المرأة تخرج من حضرموت أو من صنعاء وتذهب إلى البيت لتطوف وحدها، وهذا ليس فيه دلالة على الإقرار ولا الإنكار، بل فيه السكوت، وعندنا القرائن الخارجية التي أثبتت الإنكار وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) ويكون بذلك قد قطعنا دابر هذه الأدلة.
أما القول الثالث وهو الذي يقول باليوم والليلة فهو قول ضعيف، فإن الحكمة التي من أجلها منع النبي صلى الله عليه وسلم المرأة من السفر مع غير محرم هي طمع الرجال فيها، والحد من استشراء الفساد، فإن قيل: وإن كانت امرأة عجوزاً، قلنا: لكل ساقطة لاقطة يطمع فيها، لا سيما والرجل يتأثر بالنظر للمرأة، على أن المرأة لا تتأثر إلا باللمس، فإذا كان النظر يؤثر في الرجل ويثير الشهوة عنده، فلا بد أن نحجز المرأة ونمنع سفرها إلا مع ذي محرم.
أما إناطة السفر بيوم وليلة فهذا خطأ وليس بصحيح، والقول بتردد الحكم بين اليوم والليلة وبين المسافة فأيهما غلب يحكم به، فإن كانت المسافة قلنا بها وإن كان اليوم والليلة قلنا بهما، خطأ بين، وعندنا الإطلاق الذي يمنع كل هذه التطورات حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر) أي: لا يوم وليلة، ولا مسافة، إلا ما جاءت به القرائن من تحديد الثمانين كيلو كمسافة للقصر.
أما الرد على من قال بالقول الرابع -وهو أن مدار المسألة على الأمان، والحكم يدور مع علته حيث دارت، فهذا يسمى قياساً صحيحاً- فهو أن يقال: هذا القياس الرد عليه من وجوه: الوجه الأول: أن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه صادم نصاً.
الوجه الثاني: نقول لصاحبه: قد خصصت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة) بوجهة نظر غير موافق عليها.
الوجه الثالث: أن في هذا القياس مخالفة لمقاصد الشريعة؛ إذ من مقاصد الشريعة سد الذرائع، فلو قلنا بجواز السفر دون محرم عند الأمان فجاءت امرأة متلاعبة تقول: أنا آمنة على نفسي مع هؤلاء، وتذهب لتتلاعب معهم، فنكون بهذا قد فتحنا الباب لمن يزعم أن هناك أمان وليس ثمة أمان، فإذا أحكمنا المدة، وأغلقنا الباب كلية، وقلنا: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقد احتطنا لديننا، واستبرأنا ذممنا.
أما وهذه الأقوال إن كانت تنبئ عن شبهة فإن الله جل في علاه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم شرع لنا شرعاً قويماً لا بد من الأخذ به ألا وهو قوله: (دع ما يريبك إلا ما لا يريبك).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) فنقول: هذه الأقوال ولو نبع منها الشبهة فإننا نقطعها بقول النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم، وتسلم لنا الأدلة.
إذاً: فيكون القول الصحيح الراجح: أن المرأة لا يجوز بحال من الأحوال، بأمان أو بغيره أن تسافر بدون محرم.
وأشكلوا علينا بالنظر فقالوا: لو أن رجلاً أخذ زوجته إلى المطار وانتظر حتى ركبت الطائرة، فهي في أمان الآن؛ إذ لا يمكن لأي أحد أن يعتدي عليها، وليس هناك خلوة، وعند نزولها من الطائرة إلى المطار فستجد أخاها في انتظارها، فيأخذها ويكون محرماً لها، فهي الآن في أمان تام، وهذا مما يدل على الجواز.
وهذا الكلام وإن كان سديداً، فهو عند تدقيق النظر من الضعف بمكان، فهب أن الطائرة انتهى منها الوقود، أو حدثت صاعقة في الجو، أو حدث في الطائرة خلل مما أدى إلى هبوط اضطراري، فهبطت في أدغال أفريقيا، والأشجار كثيرة، وإذا برجل كان بجانبها يتكلم معها بكلام معسول، وينظر إليها، ويرى في عينها الدفء والحنان، ويقول: ما رأيت هذا من زمن بعيد، ويتكلم معها بهذا الكلام الذي يؤثر في قلبها، ثم يستدرجها إلى أن يحدث المحظور، فأين الأمان هنا؟ وعليه لا بد أن تضع ذلك في اعتبارك؛ إذ لا أمان للمرأة إلا مع رجل يعلم أنها عرضه، وأنه يدافع وينافح عن عرضه، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون عرضه فهو شهيد) فإن قيل: هل الحرمة باقية إن أدى ذلك إلى وفاتها؟ فنقول: تستأجر محرماً وتأخذه معها للسفر، فالمرأة درة ثمينة في هذا الدين الحنيف، فهو يحافظ عليها؛ ولذلك منعها من السفر مع غير ذي محرم، ومنعها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخلو بأحد إلا مع المحارم؛ حفظاً لكرامتها، وصيانة لعفتها وشرفها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.