-من أعظم دلائل نبوته القرآن الكريم فقد تحدى العرب بما فيه من الإعجاز ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بشيء منه مع أنه كان أمياً وكانت قريش أهل البلاغة والفصاحة والشعر وكانوا يرتجلون الكلام البليغ في المحافل ارتجالا ولم يقتصر إعجاز القرآن على بلاغته بل على ما حواه من حكم وأخلاق ودين وتشريع وعلوم عقلية وأخبار عن الأمم الماضية.
وقد اعترف كثير من أهل الفصاحة والبلاغة بأن القرآن ليس من كلام البشر ولا يقدر أحد على معارضته
ومنهم عتبة بن ربيعة فإنه لما سمع القرآن من رسول الله رجع إلى قريش وقال "والله لقد سمعت ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ".
ومنهم الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة فإنه لما قرأ عليه رسول الله {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَايتَاْءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ. يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذّكَّرُونَ} قال له أعيده فأعاد ذلك فقال "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" فقالت قريش قد سبأ الوليد والله لتصبأن قريش كلها.
أما أنيس أخو أبي ذر ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية فإنه رجع بعدما سمع القرآن من رسول الله وقال رأيت رجلاً بمكة يزعم أن الله أرسله فقال له أبو ذر فما يقول الناس فيه؟ قال يقولون شاعر. كاهن. ساحر. لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أنواع الشعر فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد وإنه لصادق وإنهم لكاذبون.
وقد اسلم ضماد بن ثعلبة الأسدي عندما سمع رسول الله يقول:
(الحمد لله نحمد ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)
وأسلم عمر بن الخطاب الذي كان من أشد الناس على رسول الله بعد أن قرأ القرآن في بيت أخته فاطمة بنت الخطاب. وقد تقدم قصته.
وأسلم كذلك الطفيل بن عمرو الدوسي وهو شاعر مشهور بعد أن تلا عليه رسول الله آيات من القرآن وقال "والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه" وقد أوردنا قصة إسلامه فلتراجع في موضعها.
ولما كانت العرب أهل الفصاحة والبلاغة فقد كان المنصفون منهم يسلمون عند سماعهم القرآن من غير معارضة ولا مكابرة لأن الحق أحق أن يتبع. أما الذي في قلوبهم مرض فقد كانوا يبذلون كل جهد لمنع الناس من سماع رسول الله يتلو القرآن خشية أن يؤثر فيهم ويسلموا
وحكى أبو عبيدة أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فسجد وقال "سجدت لفصاحة هذا الكلام" وسمع أعرابي أخر رجلا يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} فقال أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام. هذا ومعجزة القرآن باقية ما بقيت الدنيا وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ولم يشاهدها إلا الحاضرون.
وقد حاول بعضهم معارضة القرآن فجاء كلامه سخيفاً مضحكاً
فمن ذلك قول مسيلمة الكذاب وهو عربي صميم "يا ضفدع كم تَنِقِّين. أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تدركين ولا الشرب تمنعين"
ولما سمع قوله تعالى {وَالْنَّازِعَاتِ غَرْقاً} قال "والزارعات زرعاً والحاصدات حصداً والذاريات قمحاً والطاحنات طحنا والحافرات حفراً والثاردات ثرداً واللاقمات لقما. لقد فضلت على أهل الوبر وما سبقكم أهل المضر. الخ"
ومن كلامه "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى. أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وأحشا"
وقال بعضهم "الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل وإن ذلك من خلق ربنا لقليل" وهذا كلام لا طعم له ولا حلاوة فيه. خال من المعنى يمجه كل ذوق ولا يتمالك قارئه من الضحك.
وقد أراد بعضهم معارضة سورة الإخلاص فأخفق واعترته رقة القلب فتاب.
وحاول ابن المقفع المعارضة فلم يستطع واعترف بإعجاز القرآن.
وقد ورد في القرآن الإخبار بالمغيبات مما سبق ومما كان في وقت نزوله ومما سيقع بعد ذلك
كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهث آمِنِينَ}
وقوله تعالى {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَخُمْ مِنْ بَعْدَ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}
وقال تعالى {لَيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كلَّهِ}
وقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
وقوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
وقوله {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} الآية
وقوله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ} إلى آخرها
وقوله تعالى {وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فلما نزلت هذه الآية منع رسول الله أصحابه من حراسته.
وإني أنتهز هذه الفرصة فأنشر إلى العالم الإسلامي رأي عالم انجليزي في رسول الله وهو مستر بورسورث سميت مؤلف كتاب محمد والإسلام (?) آملا أن يتدبره القارئ بإمعان مع العلم أنه رجل مسيحي ولكنه منصف أبت عليه نفسه إلا تقرير الحقيقة بغض النظر عن أي اعتبار آخر. قال ما ترجمته:
"إن المعجزة الخالدة التي ادعاها هي القرآن. والحقيقة أنها لكذلك. وإذا قدرنا ظروف العصر الذي عاش فيه واحترام أتباعه له احتراماً لا حد له، ووازناه بآباء الكنيسة أو بقديسي القرون الوسطى لتبين لنا أن أعظم مما هو معجز في محمد "رسول الله" أنه لم يدّع القدرة على الإتيان بالمعجزات. وما قال شيئا إلا فعله وشاهده منه في الحال أتباعه. ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكر صدورها منه. فأي برهان على إخلاصه أقطع من ذلك؟
وقد كان محمد يدعي إلى آخر حياته كما ادعى من مبدأ أمره أنه رسول الله حقا. وإني أعتقد أن الفلسفة العالية والمسيحية الصادقة ستعترف له بذلك يوماً من الأيام".