الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبيّ العربيّ الأميّ الأمين، الذي سطعت أنواره من مكة المكرمة فأضاءت الأنام وبددت جحافل الظلام، ومحت الوثنية ومحقت الأصنام وثبتت بفضل جهوده دعائم الوحدانية وأسس الإيمان وانتشرت الفضائل بالاقتداء بسيرته والاهتداء بتعاليمه.

وبعد فهذه قطرة من بحر السيرة النبوية عنيت بتأليفها وتنسيقها لتكون درساً ومرجعاً لطلاب التاريخ الإسلامي. وقد بذلت المجهود في البحث والتنقيب والاطلاع على ما ألف في هذا الموضوع المترامي الأطراف الذي قضى العلماء فيه أعمارهم من قديم الزمان إلى الآن، واستعنت بأوثق المصادر وحققت ما وجدت من خلاف وجمعت شمل ما تشتت في بطون الأسفار، فلم أقتصر على كتب السير وهي تفوق حد الكثرة، بل اعتمدت أيضاً على تفاسير القرآن الشريف وكتب الحديث الموثوق بها وتراجم الصحابة رضوان الله عليهم ومعاجم اللغة وساقني البحث إلى مطالعة كتب المستشرقين في السيرة النبوية للوقوف على طرائق بحثهم وسردهم الحوادث ومواطن شبههم واعتراضاتهم، فمنهم المنصفون وهم الأقلون وقد استشهدت بآرائهم في الدفاع عن صاحب الشريعة، ومنهم المعتدلون لكن لا تخلو تعليقاتهم من اعتراضات ومغامز خفية وشبهات لا يستطيع ردها إلى الصواب من الوجهة التاريخية إلا من درسها ودرس معها التاريخ الإسلامي بتوسع من مصادره الأصلية وينابيعه الصافية، ومنهم من لا هم له إلا الطعن بدافع التعصب والحقد، كزمرة المبشرين الذين لا يبغون غير إفساد العقائد وهؤلاء لا يمكن أن نسميهم علماء محققين بل هم في الواقع تجارٌ مضللون فقد ينسب الواحد منهم إلى الإسلام ورسوله الكريم من الخرافات والمفتريات ما لا أصل له إلا في مخيلته ومخيلة كل متعنت نغرض، ولذا اضطررت بعد أن وقفت على حقائق التاريخ الإسلامي أن أترجم إلى قراء العربية بعض هذه الشبهات والاعتراضات ورددت عليها من المصادر الصحيحة ردوداً يضمحل أمامها كل شبهة ويزول كل شك حتى تتطهر النفوس من أدران الشبهات وتعود إلى الهدى وتسلك المحجة الواضحة، ولا يخفى أن ترك هؤلاء المتعصبين الحانقين على الإسلام أو المتجرين باسم الذين يلقون بذور الفساد وينشرون المفتريات والاعتراضات من غير أن ينهض من يذود عن الحقائق بسلاح العلم الصحيح وإقامة الحجج الناصعة والبراهين القاطعة، تهاون وتقصير يجب أن ينزه عنهما كل من آتاه الله عقلاً راجحاً.

إن الينابيع التي تُسقى منها السيرة النبوية واقية لكنها مع ذلك مشتتة في بطون كتب التواريخ العامة والأدب واللغة والطب والفلك فقد تعثر فيها على بحوث قيمة قد لا توجد في كتب السير فلقطف هذه الثمار لا بد من البحث والاطلاع بصبر وتأن وهذا يحتاج إلى جهد شاق ووقت طويل.

أما كتب السير نفسها فهي على ما يعلم كل باحث ومحقق غير مرتبة ترتيباً يسهل على الطالب العثور على بغيته من ضبط تواريخ الوقائع والحوادث وتسلسلها ومعرفة مواقع البلدان والأماكن والوقوف على سير الرجال بصورة واضحة جلية، وهي إما مطولة تطويلاً مملاً أو مختصرة اختصاراً مخلاً.

تلك الكتب تنقصها الفهارس الوافية التي لا يخلو منها كتاب حديث، فهارس بأسماء الرجال والقبائل والنساء والأماكن. هذا غير الفهرس العام بالموضوعات، وقد قمت بتحريره وترتيب هذه الفهارس بأنواعها لسهولة البحث والمراجعة إذ قد لا يتسع وقت الباحث في موضوع خاص لتلاوة الكتاب من أوله إلى آخره.

أضف إلى ذلك ما في السير من الحشو والخروج عن الموضوع والتضارب والاختلافات التي لا يخلو منها كتاب والتي لا يكاد يستخلص القارئ منها واقعة صحيحة أو رأياً قاطعاً يرتاح إليه.

هذه حالة المؤلفات العربية التي بين أيدينا. وقد تعرّض بعض المصنفين في العصر الحاضر إلى تحليل شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تحليلاً نفسياً باعتبار أنه شخص عاديّ إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الشطط وطمس الحقائق التاريخية وتشويهها، لأن سيرة رسول الله ليست كسيرة أي فرد من الأفراد أو عظيم من العظماء ممن يطبق على حياتهم وسلوكهم أصول علم النفس ويحكم عليهم بمجرد الرأي والملاحظة. نعم إنه عليه الصلاة والسلام إنسان لكنه إنسان ممتاز بلغت عظمته الكمال البشري فلا يمكن مقارنته بغيره من عظماء القادة والزعماء. إنسان اختاره الله سبحانه وتعالى واصطفاه لتبليغ رسالته للناس كافة وأنزل عليه الوحي وأتى بمعجزات خارقة للطبيعة يقف أمامها العقل البشري حائراً لا يفقه لها تعليلاً. ولا يزال العقل عاجزاً عن إدراك كنهها وكيفية وقوعها بالرغم من تقدم العلوم والاكتشافات الحديثة.

ولا يفوتني أن أذكر أن التاريخ لا يعتبر الآن كما كان في سالف الأزمان قصصاً تكتب وتتلى بل أصبح علماً يدرس كما تدرس العلوم المؤسسة على البحث والتحقيق.

إن للعلماء السابقين مزيد الفضل فقد حرصوا على تدوين الأحاديث النبوية وتحروا صحتها وألفوا السير فاغترفنا من مناهلهم العذبة وقطفنا من ثمار مجهوداتهم الصادقة.

وها أنا ذا أتقدم بهذا الكتاب إلى العالم الإسلامي راجياً المولى جل شأنه أن أكون بعملي هذا قد أديت بعض الواجب عليّ نحو سيدي وحبيبي رسول الله ونحو الدين الحنيف دين الطهر والتوحيد والأخلاق الفاضلة.

ثم أتقدم بالشكر الخالص للفاضلين عبد العزيز أفندي الحلبي ومحمد أفندي الحلبي لعنايتهما بطبع الكتاب طبعاً متقناً وتولى نشره في العالم الإسلامي. جزاهما الله خير الجزاء، وأشكر جميع أصدقائي الذين أبدوا غيرتهم واهتمامهم لإظهار الكتاب حباً منهم في العلو وخدامه.

محمد رضا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015