إن كل إسهاب في وصف مضامين كل حدّ من ماهيات تلك الفصول يصبح ضربا من اللغو والإطالة الباعثة على الإملال، ما دام الكتاب بين أيدينا وهو خير مترجم عن أدب صاحبه وأسلوبه وذائقته الفنيّة وعلو كعبه في العلوم والآداب والخبرة في طبائع الإنسان وملكاته وما فيه من الكياسة والظرف والملاحظة النفسيّة.
إن النسخة التي انطلقنا منها في تحقيق جزئي هذا الكتاب ترتقي إلى العام 1326 هـ (1908 م) ، وقد تكبّدنا في قراءتها وتصويبها والتغلّب على عثرات الطبع فيها- وهنات الطباعة القديمة وإهمال الضوابط على اختلافها- الكثير من العناء، وإلى درجة الإعياء، وبالرغم من المثابرة والمصابرة والرجوع إلى عشرات المصادر الخاصّة بالشعر لتذليل مواطن الإبهام والغموض المتفشيّة في نسخة الكتاب، لا يسعنا مع ذلك، إلا الاعتذار عمّا يكون قد فاتنا من تقصير أو ضبط أو تحديد لبعض العبارات والشواهد. وفيما خلا ما تقدّم يبقى كتاب المحاضرات في حلّته الجديدة- وإخراجه وطريقة عرضه وتقسيم كل حدّ من حدوده وإبراز مقاطع كل منها وعناوينها. تجعل منه- ملاذ كلّ قارىء محبّ للأدب ومتذوّق لفنون القول وضروب الكلم وأغراضه.
إنّ هذا الكتاب الموسوعة، هو بحق نزهة للعقل والقلب على السواء وزاد لا ينضب من علم الأوّلين وأشعارهم وحكمهم وأمثالهم ومعارفهم.
ولئن كانت ألف ليلة وليلة إحدى قمم السرد الشيّق والحكايات الطريفة الجامعة بين الواقع والخيال فكتاب الراغب- «المحاضرات» - رحلة مماثلة ولكنها في عالم الوعي والحقائق والأمثولات والعبر، فهو يضع بين يدينا الأشياء وأضدادها والفكر ونقائضها، ويترك لنا البحث عمّا هو أكثر صدقا وواقعية.
لعلّ أمثل ما نقوله في ختام هذا التصدير لتبرير عدم ترددنا عن إحياء قديم التراث الذي يظلّ قادرا على مواكبة الحداثة بما فيه من الإبداع والأصالة على ما في هذه الرسالة من صعاب كلمة العماد الأصفهاني إذ يقول: رأيت إنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
إن الكمال لله وحده، وحسب المرء أن يكون صادقا فيما يعمل وفي هذا كلّ الرضى والعزاء، لأن العطاء مشفوعا بالطموح إلى الأفضل، أجدى من النكوص مع التزمّت، وهذا هو معيار الارتقاء الحقيقيّ، ولله الحمد وعليه التّكلان.
بيروت في: 18/2/1999 م 2/10/1419 هـ