يقول: كأنه لا يحسن الدعوة إلى ربنا المعبود. فقلت: كلا إنه ابن جلا، وله السبق في مضمار الديانة والعلى، لكن من عادته أن يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأترابه، والمحب له الدلال، والمرء يشرف بالزلال. فاعلم -هُدِيتَ الطريق، وفزتَ بحظ من النظر والتحقيق- أن الله لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي ولم يكن أحد من أهل الأرض -عربيهم وعجميهم قرويهم وبدويهم- يعرف الحق ويعمل به إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، فأيد الله دينه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر مَن أسلم سبب وقاية، وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم، فمكث على ذلك يدعو ويُذَكِّر، ويعظ ويُنْذِر، مع غاية اللطف واللين. فتارة يُكَنِّي المخاطبين، وطورًا يأتي نادي المتقدمين أو المترئسين، وحينا يقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " 1، ونَاهِيك بخُلُق مدحه القرآن، وأثنى على حلمه في الدعوة والبيان. ولا يرد على المعنى قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 2 الآية، كما ظنه بعض المتطوعة دَيْدَنًا لرسول الله رضي الله عنه، فإن هذا يُصَار إليه إذا تعينتْ الغلظةُ ولم يُجْدِ اللينُ، كما هو ظاهرٌ مستبينٌ، كما قيل: آخر الطب الكيُّ، وهو أيضا مع القدرة. ويشترط أن لا يترتب عليه مفسدة كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْر ِ} 3. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن دَرْء المفاسد يُقَدَّم على جلب المصالح، كما هو مُقَرَّر في علم الأصول. ثم إن الآيةَ: آيةَ الغلظة مدنيةٌ بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد