الشرح: هذه القاعدة الأولى فيما يتعلق بالقرآن الذي هو من كلام الله عز وجل، وكلام الله وكلماته لا يحدها حد، والله عز وجل يتكلم متى شاء بما شاء وكيف شاء، والقرآن من كلام الله، ولذلك قرن القرآن بالكلام؛ لأن صفة الكلام لله عز وجل من الصفات الثابتة له، ومنها ما هو من الصفات الذاتية اللازمة لله، ومنها ما يتعلق بإرادة الله ومشيئته، وأعني بذلك: أن الله عز وجل موصوف بالكلام وهذا كمال، وأن كلامه الذي هو من صفة ذاته، أي: أنه سبحانه متكلم متى شاء وكيف شاء ويكلّم من يشاء.
وكلام الله عز وجل يحدث متى شاء فهو متعلق بمشيئته، والله عز وجل إذا أراد الكلام فإنه سيتكلم كما يريد، وعلى هذا فإن القرآن من كلامه سبحانه، والقرآن هو الذي بين أيدينا، وكلام الله عز وجل الذي أنزله الله هدى وشفاء، وأنزله منهاجاً للأمة يحكم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والبشرية جمعاء، لمن اهتدى به، والقرآن إنما أُنزل ليتلى وليتدبر وليُعمل بمقتضاه، فأنزله الله عز وجل هداية للقلوب وإنارة للعقول واسترشاداً للجوارح والأعمال، ولذلك فكما أمرنا بتلاوته وحفظه فقد أُمرنا بتدبره، أي: تأمل معانيه، فما كان منها من أمور العقائد آمنا به جزماً، ومن أمور الأخبار صدّقنا به، وما كان به من أوامر ائتمرنا به بقدر الاستطاعة، وما كان فيه من نواهٍ انتهينا عنه بقدر الاستطاعة، وما كان فيه من قصص وعبر ومواعظ فيجب أن نستفيد منها بما يصلح أحوال قلوبنا وأعمالنا وشئوننا في حياتنا كلها.
ولذلك فإن القرآن دستور الأمة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرعة عن القرآن؛ لأن القرآن أجمل والسنة فصّلت في كثير من الأمور، ولأن القرآن أمرنا بالأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
فالقرآن كلام الله على الحقيقة، فالله عز وجل تكلم بالقرآن حقيقة كما يليق بجلاله سبحانه من غير تكييف ولا قياس، ومن من غير إقحام للخيالات والأوهام التي قد يتخيلها بعض الناس عن كيفية الكلام، وهذا في جميع أفعال الله وصفاته وأسمائه، فإنها لا تكيف، لكن لها حقائق، وهذا هو الفارق بين فهم السلف وبين فهم أهل الأهواء والبدع الذين خاضوا في كلام الله وقالوا فيه قولاً لا يليق بالله عز وجل، بل فيه سوء الأدب واستنقاص كمال الله عز وجل بما لا يليق؛ لأنهم ما أثبتوا كلام الله على الحقيقة بحروفه ومعانيه من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وأن هذا القرآن الذي بين أيدينا منزل من الله عز وجل غير مخلوق.
وقوله: (غير مخلوق) لأن القرآن كلام الله، والكلام من صفته، وصفات الله لا شك أنها غير مخلوقة، ولأن السلف حين استقرءوا نصوص القرآن والسنة في حقيقة القرآن، ثبت عندهم بالإجماع وبقطعيات النصوص أن القرآن منزّل غير مخلوق، وكانت هذه القضية بدهية في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ظهرت الأهواء العقلانية والفلسفية التي تقرر الدين بمجرد العقول والخيالات والتخرصات، وهذا منشأه الأخذ بمسالك الفلاسفة الذين منهم الذين وصفهم الله عز وجل بالخرّاصين، وذمهم في قوله سبحانه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11] فإن التخرّص هو القول في القرآن خصوصاً وفي كلام الله عموماً بغير ما ثبت في النصوص وبمقتضى الآراء والاجتهاديات التي لا يمكن أن تقرر في هذا الأمر شيئاً؛ لأن هذه الأمور توقيفية، فكلام الله غيب وكلامه بالقرآن غيب، وكيفية كلامه لا يمكن أن تدرك ولا تقاس بأفعال البشر؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء، ومن ذلك كلامه سبحانه، فإن من تكلم وليس كمثل كلامه شيء، ولا يتكلم كما يزعم الزاعمون بالكيفية التي يتكلم بها الخلق، بل إنه عز وجل أنزل القرآن والقرآن غير مخلوق.
وقوله: (منه بدأ) أي: أن الله عز وجل تكلم به كما يليق بجلاله، فمبدأه منه؛ لأنه كلامه، وكلامه صفته، (منه بدأ) ولن يبدأ من مخلوق آخر كما يزعم أهل الأهواء الذين زعموا أن القرآن إنما عبر بموجبه عن مراد الله، أو أن الله خلقه خلقاً في مكان ما وعلى هيئة ما ثم تحول هذا الخلق إلى حروف ومعانٍ، أو أن الله خلق حروفه ومعانيه وتشكل منها القرآن كل هذه من الأقوال الباطلة والمقالات التي تفسد العقيدة وفيها مصادمة لمعاني النصوص.
وقوله: (وإليه يعود) فقد ثبت في الآثار الصحيحة أنه حينما تنتهي الدنيا ويقبض الله المؤمنين ولا يبقى في الدنيا إلا شرار الخلق، لا يبقى من يقول: الله الله، ولا يبقى من يعمل بالقرآن، فعند ذلك يرفعه الله إليه.
وقوله: (وهو معجز دال على صدق من جاء به إلى يوم القيامة) القرآن معجز، ولا يستطيع لبشر أن يأتوا بمثله، لا بآية ولا بأكثر من آية، ولا يزال التحدي قائماً، ولن يزال إلى قيام الساعة على وجه قطعي، ورغم محاولات مشركي العرب الأوائل الذين يملكون زمام اللغة العربية، ومحاولاتهم الجادة في أن يحاط القرآن، فإنهم ومع ذلك لم يستطيعوا بأف