الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.

إن البحوث التي استمعنا إليها اليوم واستمعنا إلى تلخيصها كانت بحوثًا قيمة، لأن أصحابها جمعوا أحكامها من مختلف المصادر بتجرد وأمانة.

الشيء الذي أردت أن ألفت الانتباه إليه هو ملاحظة شكلية تخص البحث القيم الذي أعده فضيلة القاضي محمد تقي العثماني. ففي بداية بحثه قال: "وقد ادعى بعض المعاصرين جواز بيع الدين وجواز هذه العمليات على ذلك الأساس، استنادًا على تفسير خاطئ لما حكي عن المالكية وبعض الشافعية". في هذه الصلة يمكن أن يكون هو نفسه قد تناقض معها في ثنايا البحث، لأن المالكية أجازوا بيع الدين على الطريقة التي بينها الشيخ المختار السلامي ولكن على سبل معينة تخرجه من الربا. ففي الأبيات التي تفضل الشيخ السلامي بقراءتها عليكم اليوم من العاصمية وفيما بعدها يتبين أن المالكية أجازوا بيع الدين ولكن بشروط قال العيني في شرح البخاري: "إن مالكًا أجاز السلم في كل شيء بشروط تخرجه من الربا" وأن ابن عاصم قال: " بما يجوز بيع الدين" وأن في أبيات أخرى قال:

وإن يكن من سلم بعد الأمد

فالوصف فيه السمح جائز فقد

ويشتري الدين بدين وفي

عين وعرض وطعام قد يفي

فبيع الدين عند المالكية على الشروط التسعة التي بينها هو في بحثه جائز ومبدأ عام، ولكن بالشروط التي لا يمكن التساهل فيها، وإذا وقع التساهل فيها فالمبدأ ليس من صور المالكية لأنهم يبطلونه إذا اختل واحد من تلك الشروط.

وفي السلم قال صاحب التحفة:

فيما عدا الوصول جوز السلم

وليس في المال ولكن في الذمم

والشرط للذمة وصف قام

على الإلزام والالتزام

وشرط ما يسلم فيه أن يراعى

متصفًا مؤجلاً مقدرًا

وفي بحثه أيضًا قال: (وروي عن الإمام ابن حنبل – رحمه الله – أنه قال: "ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين "، والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام) . لو ناقشنا هذه المقولة لوجدناها تتركب من جملتين. الجملة الأولى هي أن الإمام أحمد – رضي الله عنه – قال: إنه لا يصح بيع الدين بما فيه السلم، وأن ذلك ليس فيه حديثًا وإنما هو إجماع. أرى أن إجماع أهل السنة لا يمكن أن يتحد ويكون خارجًا عن الإجماع. هذه هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية: قال هو في نفس بحثه، إن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كلاهما خرج عن ما قاله الإمام أحمد وقالا بجواز بعض بيع وصور من السلم، فهل يا ترى هما اطلعا على دليل لم يطلع عليه الإمام أحمد، أو أنهما لم يأخذا بهذا القول، وهما يميلان إليه؟ إن صح هذا فالمسألة تستدعي منا كثيرًا من التروي.

لماذا هذه الأوراق التي ادعى اليوم الدكتور الضرير على أن المالكية أجازوا كثيرًا من الصور؟ فأنا أعلن أن هذه الأوراق لم تكن موجودة عندنا. السلف الصالح، لم تكن هذه الأنواع من المبايعات موجودة في زمنهم، والحكم الفرعي غير مؤهل للقياس عليه خصوصًا إذا كنا نجهل العلة التي بني عليها أو إذا كانت تختلف تمامًا مع ما نريد القياس به اليوم. فهذه أوراق مستجدة صيغت بمنع وقوانين تعارض الشريعة الإسلامية، وبعيدة عن أحكامها، ولا يمكن أن تعرض على الشريعة الإسلامية على أن تدخل من هذا الباب لنشرع ما حرم الله، وإن فعلنا فلم يكن للمالكية ولا للشافعية ولا لأحمد وإنما هو اجتهاد منا، ذلك أن المقولة التي سمعتها اليوم من بعض الإخوة في كلام شيخ الإسلام، هذه المقولة لها مستند وهو حديث أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – ذلك أنها أتت امرأة وقالت لها: اشتريت من زيد عبدًا بدراهم دين في ذمتي فاحتجت للدراهم فاشتريته بأقل مما بعته له، فهل هذا يجوز؟ فقالت لها: أبلغي زيدًا أنه أفسد جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أرأيت إن رجعت فأخذت دراهمي لا يكون عليَّ إثم؟ قالت: نعم، لأن الله قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .

فإذن كل المستجدات التي تقع بهذه الأشكال كان الحكم مصرحًا به بالابتعاد عنها نظرًا لما تؤول إليه من الربا.

ابن القيم في (إعلام الموقعين) استعرض مائتي حيلة من الحيل حرمها جميعًا إلا ثلاثين منها، وهي كلها كانت متبعة وكان البعض يتعامل بها على أنها حلال.

فنحن إذن أمام وضعين مختلفين. المنهج الإسلامي لكل شيء بأصوله وفروعه وبمنهجه القائم المستقل، والمنهج الربوي الذي يحاول أن يخترق الجسم الإسلامي بأي شيء، فإذا أردنا أن نتكلم عن الأوراق المالية من كمبيالات وسندات فينبغي أن ننظر إليها من خلال المنهج الإسلامي لا من خلال الرؤية الغربية.

ولهذا فإننى أرى أننا عندما نريد الكلام عن هذه الأشياء ينبغي أن نترفع عن الفروع فلن نجد فيها ضالتنا المنشودة الطرق وصلت إلينا بطريقة لا نكاد نعمل له حساب، ولكن نحن إذا رجعنا إلى الأصول فسنجد فيها ما يمكننا من سن الضوابط الشرعية للمعاملات المستجدة على أن ننظر من الفكر الإسلامي لا من الفكر المستورد.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015