ولا بدع – بعد ذلك – أن كان علماء هذه الأمة وفقهاؤها يعكفون على الكتاب والسنة في كل عصر، يدرسون ويتدربون ويفكرون ويبينون حتى نشأت من ذلك علوم القرآن وعلوم السنة، وأحكمت أصول الرواية وقواعد الدراية، ووضعت التفاسير والشروح، وجمعت الأحكام وأصولها من الأدلة التفصيلية في الكتاب والسنة، وأصبح جماع ذلك دليل الإيقان ومبلغ الاطمئنان، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)) .
وقد نبعت من أصول الشريعة أفهام ومدارك، وتبينت أيضا أسرار ومقاصد، واتبعت مناهج وطرائق، وضبطت أصول وقواعد، كانت جميعا مرآة ظهرت عليها أقوال الصحابة والتابعين، وآراء الأئمة والمفتين، وأنظار الفقهاء والمجتهدين، وكان ذلك سببا لغنى الفقه واتساع دائرته وتأصيل نظرياته وتجديد اتجاهاته، في كل المجالات وجميع الشؤون، ولا يمكن لأي عالم أو أي فقيه أن يتنكر لهذا التراث العظيم ولتلك الثروة المميزة من الفقه الإسلامي، لما يقتضيه النظر الدقيق والبحث العلمي من الاستقراء التام للمذاهب والأقوال والاتجاهات والآراء ولما يتطلبه الاجتهاد في كل عصر من عميق التصور لغايات الشارع ومقاصده، ومن كمال الوقوف على الأحوال والملابسات للقضايا والنوازل، عند تطبيق الشريعة عليها وتنزيل الأحكام بها، وهكذا يتوصل إلى الحق ويقام العدل ويعتمد من الأدلة والأحكام ما يكون الأثبت والأقوى حجة وبرهانا والأيسر والأوفق لمصالح الناس، وإن في استيفاء النظر وفي المقارنة بين مذاهب الأئمة وآراء الفقهاء، وفي القيام بعد ذلك بالترجيح والاختيار للنصوص التي ينبغي اعتمادها في القضايا المتداولة - لجهدا تنوء به طاقات الأفراد، ولا يستطيعه إلا مجمع يكون لأعضائه من الإحاطة بمصادر الشريعة والعلم بالفقه الإسلامي، ومن الخبرة بالأصول والأسس والنظريات والقواعد، ومن القدرة على التمييز والتفريق بين الحالات المتشابهة، وعلى البت في القضايا المشكلة ما يعينه على تخريج المناط وتنقيحه وتحقيقه.