لا يعرف الجيل الصاعد عن صقلية اليوم إلا أنها مركزٌ من مراكز نشاط المجرمين والخارجين عن القانون لكثرة ما يتردد اسمها من خلال وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة باعتبارها مقراً لما يعرف اليوم في عالم الجريمة باسم " المافيا "
ولا يعرف عنها أولئك شيئاً مما كان للمسلمين فيها من نشاط فكري وعلمي جعلها مركزاً مهما من مراكز الحضارة الإسلامية لمدة تقرب من خمسمائة سنة، أكثر من نصفها كانت تحت السيادة الإسلامية، إذ أصبحت بذلك من أهم معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا في عصورها الوسطى المظلمة.
وقد كنت كتبت قبل هذا البحث بحثاً يؤرخ للحياة العلمية في صقلية الإسلامية مدة سيطرة المسلمين عليها والتي استمرت من الفتح في سنة 212هـ / 826م، إلى بداية استيلاء النورمان عليها سنة 444هـ / 1052م وبالتالي سقوط آخر معاقلها سنة 484هـ / 1091 (1) ، وقد رأيت هنا ومن خلال هذا البحث أن أبين ما كان عليه حال المسلمين بعد سقوط صقلية، في عهد النورمان الذي استمر من سنة 444 هـ / 1052م إلى سنة 591هـ / 1194م، لأن دينا كالدين الإسلامي، وحضارة كحضارة المسلمين لا يمكن أن تزول من أي بلد وصلت إليه بمجرد استيلاء غير المسلمين عليه، وذلك لأن هذا الدين بجميع مبادئه وأهدافه وسلوكياته، وتلك الحضارة الرائعة بجميع خصائصها ومميزاتها، ولّد قناعةً لدى أولئك المستعمرين بالاستفادة من كل ذلك، مع ملاحظة أن ذلك البقاء لأولئك المسلمين لابد وأن يمر بحالتي التسامح والاضطهاد، وهذا ما أثبتته هذه الدراسة إلى جانب ما أثبتته من استفادة ذلك الغير من حضارة وعلوم ومعارف المسلمين.