ومن أبرز الأقضية التي أبانت عن مظهر مشرق من مظاهر حكم كل من داود وسليمان عليهما السلام ما قصه جل شأنه في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (?) فتضمنت هاتان الآيتان التنويه بعلم داود وسليمان عليهما السلام والإشادة بقضائهما واجتهادهما من خلال حكمهما في الحرث وهو الزرع، وقيل الكَرْم، حين دخلت فيه غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلاً - وذلك معنى النفش: وهو الرعي ليلاً - فرعته وأفسدته، فرأى داود عليه السلام أن يدفع الغنم إلى أصحاب الحرث لسبب اقتضى عنده ترجيح ذلك، ولعلّه أن ثمن ذلك الغنم يساوي ثمن ما أتلف من ذلك الحرث، فكان ذلك عدلاً في تعويض ما أتلف، وأما حكم سليمان فرأى أن تدفع الغنم لأصحاب الحرث عاماً كاملاً كيما ينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها، ويدفع الحرث إلى أصحاب الغنم ليقوموا بعمارته، فإذا كَمُل الحرث وعاد إلى حالته الأولى رُدّ إلى كل فريق ماله، فرجع داود إلى حكم سليمان لأنه أرفق، وإن كان قضاء داود متوجهاً، إذ الأصل في الغُرْم أن يكون تعويضاً ناجزاً، وفي قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} دليل على أن الأصوب كان مع سليمان، إذ أحرز أن يبقي ملك كل فريق على متاعه، كما تضمن مع العدل والتعويض البناء والتعمير، وفي قوله تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} دليل أن اجتهاد كل منهم كان على الصواب، فهو احتراس من أن يفهم أن حكم داود عليه السلام كان جوراً (?)