الإسراف الغالب آفة من آفات الحضارة ولا إسراف إذا لم توجد حضارة وعلى نسبة حضارة الأمة وغناها يكون في الأكثر بذخها وإسرافها وإن شئت فقل إسراف أهل البسطة والغنى. مثاله ما نسمعه لهذا العهد عن ديار الغرب وإيغال الموسرين من أهله في الإنفاق على كل ما طاب وحلا وبهرج وزخرف فينفق الفرد في الشهوات والتبرج ما يكف لإعالة عشرات الألوف أعواماً. وتأتينا عنهم أنباء لا تكاد تصدق لولا تناصرها واتفاق المشاهدين لها عياناً على إثبات ما يقال ويروى. ولو استقريت تاريخ الأمم لرأيت الشيء الكثير من ذلك قبل ألوف من السنين وآخر من انتهت إلينا أخبار ترفهم الرومان واليونان لما بلغت الحضارة بينهم حدها.
وهذا الشرق أيضاً ما خلا في كل دور من أدواره من مسرفين كانوا إخوان الشياطين وإسراف اليوم يختلف عن إسراف أمس فإنه كان في غابر الأحقاب مقصوراً على رجال الدول والكلمة النافذة عند الملوك والسلاطين أما اليوم فالإسراف يكون من الرعاة والرعاية معاً خصوصاً بعد أن انتقلت الثروة إلى الأفراد. وتاريخ العرب لم ينقل إلينا سوى أخبار الأمراء والملوك وما عني المؤرخون بنقل أخبار الأفراد من الأغنياء ولذلك كان علينا إذا رغبنا أن نستشهد تاريخنا ونبحث في حالتنا الاجتماعية في القرون العابرة أن نقتصر على إيراد ما انتهى إلينا علمه من أخبار أولئك العظماء وهي لا تخلو من عبرة وتسلية.
خذ لك أمثلة لا تستغرب بعدها زوال الممالك الشرقية وتقرأ فيها نموذجاً من تفننهم في دورهم وقصورهم وأفراحم ومجتمعاتهم. فقد رأت الرميكية زوج المعتمد بن عباد الأندلسي الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط قال ولا يوم الطين فاستحت واعتذرت.
ولما اقتعد ابن أبي عامر الذروة في أيام الحكم الأندلسي صنع قصراً من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به.
وكان في دار القاهر بالله عشرة آلاف خادم من الخصيان ويفرق الضحية من الإبل والبقر