فيه يدفع ثلاثين قرشاً في كل شهر وقد أتى معه بفراش ولحف واشترى قطعة بساط عتيق فمده وجعل يجلس على فراشه كل من يزوره من إخوانه وكان يشتري ما يلزمه من الأواني شيئاً فشيئاً ويعيش في غاية الاقتصاد. فكلما دخل حجرته أو أكل أو شرب أو نام يعتريه ضيق صدر فيشكو دهره ويقول إلى متى وأنا مقضيٌّ عليًّ بالتقتير والحرمان من كل لذة وقد ينتهي في الأحايين إلى درجة اليأس بحيث يكاد ينتحر ليخلص من هذه الحياة التعسة ثم يرجع إلى نفسه ويقول قتل الإنسان ما أكفره. لابد من تحمل المشاق حتى أنال السعادة ومهما عاكستي الدهر فإني قاهره بشدة صبري ثم يأخذ يفرك في مستقبله وماذا يفعله وربما تجسمت أمامه السعادة ورأى نفسه في أعلى المناصب وأنه نال حينئذ وصالاً من حبيبته جميلة وبينا هو يخوض بحار هذه الخيالات يرى ساعة الدرس أتت فيلعن الدرس والاجتهاد لأنه كان في حرب من الأفكار.
وكان يمتنع عن التنزه إلا إذا اكرهه إخوانه على رفقتهم فيذهب حياءً منهم فينغصون عيشه وهم بمالهم فرحون فكان إذا رأى منزلاً عالياً تذكر حجرته وإذا رأى عربة جميلة تذكر ذهابه وإيابه إلى المدرسة مشياً تحت المطر والثلج وإن رأى نُزلاً تذكر دكان الطاهي الذي يتعشى فيها وإذا استنشق هواءً نقياً تذكر هواء حجرته الفاسد وإذا رأى غادة تذكر حبيبته وإذا رأى عجوزة تخدمها السراري تذكر أمه وهي تعمل في المطبخ. وكلما شاهد ما يدل على السعادة كان يذكر ما يقابله من شقائه فيرجع من التنزه حزيناً كئيباً ويعود رفقاؤه مسرورين. ولذلك كان يعد أحسن أوقاته ساعة نومه الخالي من الأحلام إذ يستريح به من التفكر في الشقاء وكان كلما ذكر شقاءه يقطع أمله من جميلة ولكن الآمال كانت تبعث الاطمئنان إلى قلبه. وقضى ثلاث سنين على هذا المنوال وهو بعيد عن راحة الفكر وانشراح الصدر فأتم الدراسة وأخذ شهادة تامة تؤهله لكل خدمة ثم عين معلماً براتب ثمانمائة قرش في الشهر فساقته الآمال وأطمعته الرواتب وسعد به أبواه وأهله ولكن لم يمض زمن حتى مات أبوه وخلف له أسرة قضي عليه أن ينفق عليها فأصبح راتبه لا يكفيه وصار يلتمس ممن تعرف إليهم أن يعينوه معاوناً لمدير مكتب بيروت الإعدادي فبلغ راتبه ألفاً ومائة قرش على شرط أن لا يفارق المكتب إلا ليلتين من كل أسبوع ويدرس أربع ساعات كل نهار ويعلم الرياضيات والتاريخ والإنشاء فصار يتألم من تنوع الفنون