أجد فيه لك غير الحب الأكيد مما يدعوني إلى تعليق الآمال بما هو أقصى مناي من دنياي وأعني به أن تكوني شريكة حياتي تشاطرني فيها الأفراح والأتراح. وإن أتقدم إليك إذا رأيت في رسالتي هذه قحة وجرأة أن تطويها عاذرةً والكريم عاذر وإذا وقع كلامي منك موقعاً حسناً فلا تلومي مفاتحتي لك بما في قلبي واعف عني وقني سورة سخطك واكتمي الأمر عن الشمس والقمر والسلام عليك. . .
ثم طوى الكتاب ووضعه في غلاف وذهب إلى منزل الباشا وطلب أن يقابل الخانم الكبيرة ليقبل يديها ويقوم بما اعتاد من تقديم واجباته لها فدعته إليها وسلمت عليه ودعت له بالتوفيق. فاختلس فرصةً في تلك الساعة وألقى الكتاب بيد جميلة فتناولته مرتعشةً وقد احمرّ وجهها ثم أقام هناك هنيهةً وانصرف إلى مدرسته.
ذهب سعيد فدخلت جميلة غرفتها وأغلقت الباب وأرخت ستور النوافذ وسدت المنافذ والشقوق بحيث لا يراها أحد وجلست على كرسي ووجهت وجهها نحو الجدار وأخذت تقرأ الكتاب فاحمر وجهها خجلاً وعلمت أنه وقع في شراك هواها فأرادت أن تتماسك ولا تريه انحلالاً في الإخلاص لعلمها أن بعض الرجال يكرهون زواج من يبحن بسرائرهن في الهوى. فبعثت إليه كتاباً تعيبه به على جرأته وما وقع له من الإلماع إليه على أسلة لسانه وبنانه. ولما تلا كتابها أخذ اليأس والخجل يقيمه ويقعده فهجر منزل الباشا زمناً حتى صار أهل بيته يسألون عنه ووقعت جميلة في شر أعمالها وندمت على ما فرط منها من عتابه المرّ الجافي على جرأته الغريبة وأيقنت أن الخوف أقصاه عن غشيان منزل أبيها فكتبت إليه بما يأتي:
عزيزي: أراك هجرتنا هجراً طويلاً وما عودتنا من قبل ذلك فإن كان هذا تناسياً فهو ينافي أملنا فيك وإن كان خجلاً من عتابنا فعملك مردود عليك. فتعال إذاً يوم الثلثاء إذ يخلو لنا الدار بتغيب أمي وأبي لأبوح لك بذات نفسي ولك مني ألف سلام.
ثم طوت الكتاب وبعثت به مع خادمتها الأمينة إلى المكتب فلما تناوله سعيد كاد يطير فرحاً وأخذ يغوص في بحور الخيال ويسبح في فضاء الأماني إلى أن أقبل اليوم المضروب للاجتماع فاحتال على مدير المكتب ونال منه رخصة بالخروج ذلك اليوم فخرج مهرولاً نحو منزل حبيبته. فلما دخل عليها سلم سلام المتلعثم وهو لا يدري ما يقول فأحسنت