يظن من لا عهد له بدرس مشاهير رجال الإسلام أنهم كانوا جبابرة لا يحسنون غير البطش والكر والفر على أن الباحث في سيرهم يراهم من أشد الأمم حرصاً على ما فيه قوام عمرانهم ولم يكن في قلوبهم غالباً شيء مما يقال له تعصب أو تحزب بل ساسوا رعاياهم سياسة العدل لم يحابوا ولم يداجوا فقدروا الكفاءات قدرها ولم يعتبروا في مصالحهم إلا أهل الغناء والعلم. وربما لا يصدق إلا غمار في هذه الإعصار لو قلنا لهم إن معاوية بن أبي سفيان اصطفى لنفسه ابن أثال النصراني من أطباء دمشق وأحسن إليه وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه. وصحب تياذوق الطبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتولي من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير.
وخدم جورجس بن جبرائيل الخليفة المنصور وكان عظيماً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة والمنصور هو الذي يقال له الدوانيقي لبخله. وخدم بختيشوع بن جورجس هارون الرشيد وتميز في أيامه وكان رئيس الأطباء كلهم في بغداد. وكان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهتهم من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء وكان مكيناً عند جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أحبه مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب أعطاه الرشيد مرة من أجل مداواة إحدى حظاياه خمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء. وأمر له المأمون مرةً بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما كان قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه.
ووجد في خزانة بختيشوع بن جبرائيل مدرج فيه عمل بخط كاتب جبرائيل بن بختيشوع الكبير واصطلاحات بخط جبرائيل لما صار إليه في أيام خدمته الرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة يذكر أن رزقه كان من رسم العامة في كل شهر من الورق عشرة آلاف درهم يكون في السنة مائة وعشرون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفاً ألف