المدينة والكفاءة العقلية حتى ليصح أن يقال أن وحدة القياس للمدينة هي الآداب من شعر ونثر وحكمة.
وما على الباحث في تواريخ الأمم الغابرة إلا أن يكون لديه من سلامة الذوق ودقة النظر ما يمكنه من استجلاء صور هاتيك الأمم من قراءة الآداب. وأما التاريخ فهو بمعزل عن هذه الروح لأنه لا يؤدي إلى إلا إحصاء حوادث قد يقع مثلها في كل أمة وفي كل عصر. وربما أصدق التواريخ في وصف حالات الأمم النفسية والاجتماعية ما كان لمؤلفه يد في الأدب ومشاركة فيه ولهذا فإن كان مؤرخو العرب قد قصروا في الصناعة التاريخية فإنهم كانوا أدباء في تواريخهم، مؤرخين في أدبهم وبذلك أوقفونا على حالة الأمة العربية النفسية والأخلاقية وجعلونا كأننا نعيش معهم.
إن أوربا اليوم قد ألقيت إليها مقاليد السيادة في العالم فجلست على منصة الحكم بين الأمم. لا أقول الحكم بالاستعمار والتسلط فقط ولكن والحكم على رقي الأمم في مستوى المدينة والآداب أيضاً. فليس من سبيل إلى رفع مقدار أمة من الأمم الشرقية خاصة أو اللاأوربية بوجه عام في نظر الأمم أو الدول الأوربية أقرب وأشرف من رفع اللثام عن الحالة النفسية لتلك الأمة وعرضها كما هي مصورة في أشعارها وآدابها. وذلك ما صنعه واصف بك بين الأمة العربية والأمة الفرنسية بل والعالم الأوربي بأجمعه، ولهذا نحن نكرمه الليلة.
فواصف كان كالمحامي عنا خصه الله بموهبة المعرفة بلغة قضاتنا أمامهم غير هياب ولا وجل يناضل عنا بأفصح عبارات لغتهم ويشرح لهم ما لأمتنا من الآداب الراقية والحكم الرائقة حتى يحصرهم بفصاحته وحجته فحكموا لنا حكماً يفيدنا في مصالحنا الاجتماعية والأدبية بل والاقتصادية والسياسية.