لا أصعب من تقييد الإنسان بأقوال غيره وأفعاله خصوصاً إذا كانت تخالف ما لقنه وألفه. وهذا مما يصح إطلاقه في الترجمة والنقل كما يصح في غيره. وذلك جاء في المثل الطلياني المترجم خائن لأنه لا يخلو في الجملة من الحياد عن الأصل وترك معان ربما كانت المقصودة بالذات من كاتبها الأول. ولقد انقسمت طرق التراجمة في الإسلام إلى قسمين فارتأى فريق أن التعريب وهو نقل المعاني المرادة بقالب عربي بحسب ما يقضي به ذوق الكاتب ويساعد عليه اللسان ولهجته خيرٌ من الترجمة أي النقل بالحرف والتزام ما قاله الكاتب الأصلي ولو لم ينطبق كل الانطباق مع ذوق اللغة المنقول إليها. والطريقة الأولى ألطف وأعذب والثانية أصدق وأمتن.
فالأولى طريقة يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما والطريقة الثانية في التعريب طريقة حنين بن اسحق والجوهري وغيرهما وأقل ما في الأولى من الجهد أن بعض الألفاظ ليس لها ما يرادفها في لغة ثانية وأقل ما في الثانية من الراحة أنها لا تقيد الكاتب بالألفاظ. قال الصفدي وهذا الطريق أي الثاني أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن اسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.
ولقد رأيت معربات كثيرة ومترجمات نقل بعضها قديماً عن السريانية والرومية والفارسية والهندية والنبطية واللاتينية وحديثاً عن الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والروسية فاستنتجت منها أن بني لغتنا يستفيدون من التعريب بالمعنى والتحصيل أكثر من النقل بالحرف. وانتفع الناس بما لخصه الحكيم ابن رشد من كتب فلاسفة اليونان أكثر من انتفاعهم من الأصل وقد اعتمد الإفرنج نقله ولم يحاولوا تطبيق ما لخصه على الأصل حتى بعد أن ظفروا بالكتب المنقول عنها بحسب ما انتهى إليه عملنا. ولا يعفى معاني هذين الطريقتين في النقل من أن يكون ضليعاً من العلم الذي يكتب فيه آخذاً بقياد اللغة المنقول عنها وإليها.
وكلما تباينت آداب أمة عن أخرى وانفسح ما بينهما مجال الاختلاف في العادات والاجتماع صعب نقل شيءٍ من لغة إلى لغة ثانية. والفرق بين لغة شرقية ولغة غربية أكثر من الفرق بين لغتين شرقيتين أو لغتين غربيتين لما في تحكك المتجاورين من المجانسة في الأفكار