يقال له الحدقي لذلك - فقد اختاره المأمون معلماتً لنفسه وكفى بمنزلة المأمون بين خلفاء الإسلام فهو أعقل خليفة في الإسلام بلا مدافع وأعلم رجال بني العباس. وعمر مترجمنا عمراً طويلاً فنيف على ما قيل عنه على تسعين سنة وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة بلده التي نشأ فيها. قال ابن خلكان وقد أصيب بالفالج في أواخر عمره فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده وكان يقول في مرضه اصطلحت علي الأضداد إن أكلت بارداً أخذ برجلي وإن أكلت حاراً أخذ برأسي وكان يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة وكان ينشد
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وحكى بعض البرامكة قال كنت تقلدت السند فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم اتصل بي أني صرفت عنها وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفاجئني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فصرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادم صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلت فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه. فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أحب أن أراه قبل موته فأقول قد رأيت الجاحظ ثم أذن لي فدخلت وسلمت عليه فرد رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله. فانتسبت له فقال: رحم الله تعالى أسلافك وآبائك السمحاء الأجواد فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من شعرك فأنشدني.
لئن قدمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدما