حياة المرء سلسلة تختلف حلقاتها بين سوداء وبيضاء يحكم قبل أن يستامن لبيض الليالي يتوقى سودها فيذخر قوة ومنعة ولا يقف إذ ذاك حائراً أمام الشداد قانطاً متذمراً بل متسلحاً أبداً ومتأهباً للمكافحة والنضال.
وناموس الأفراد يشمل الأمم والمالك كبيرها وصغيرها فما من دولة إلا وكان لها من دهرها يومان يوم لها ويوم عليها. هذه صيرت فاعتبرت وفازت وتلك لم ترعو فتلاشت فخلفها من هو أقوى منها سنة الله في خلقه.
اعتبر ذلك بدولتنا العلية التي اجتاحت الممالك ودوخت الأمصار فاستنامت واستأمنت ولم تتأهب لمقاومة غدرات الزمان فقامت في وجهها الأمم التي كانت خاضعة لها وكانت صدمة بل صدمات بين الشرق والغرب آلت إلى تقهقرنا وما كنا قبل لنعرف للتقهقر معنى وفقدنا القريم وملدفيا والفلاخ وبسرابيا في عهد السلطان سليم الثالث واضطر محمود الثاني للتسليم بمصر لمحمد علي. وكانت أيام عبد العزيز فتضعضعت الدولة بتداخل الأوربيين وشق البلغار عصا الطاعة وفازوا باستقلالهم. وكان ما كان في أيام عبد الحميد من احتلال الدول لهذه الجزيرة وتلك الولاية واستقلال هذه الإمارة وانسلاخ تلك حتى لم يبق من مملكة سليمان كبير سوى شبح حاول الأحرار أن يجسموه فاقتلعوا الدستور من أعين طاغية آخر القرن التاسع عشر وعمدوا إلى الاحتفاظ به متخذين من الاتحاد الثلاثي سنداً وعوناً ففاجأتهم إحدى الصديقات بسلخ البوسنة والهرسك فصاحوا وزمجروا ولكن لم يتعبروا فداهمتهم الصديقة الثانية باحتلال طرابلس الغرب لاعتقادها أن الدولة العلية لم تتجاوز مع النمسا حد الجعجعة وهي قريبة منها فما عساها تفعل الآن مع إيطاليا وهي بعيدة عنها. كل ذلك وساسة البلاد لا يعتبرون بل لم يزالوا ينتظرون حدوث عجيبة لاعتقادهم أن من أقسم عَلَى ضريح صلاح الدين لا يلبث أن يمتشق حسامه ويضرب به أعداء الإسلام الضربة القاضية.
وكأني بهم أمام المحنة الأخيرة واقفين مستأمنين لا يحسبون للآتي حساباً متوهمين أن أزمة طرابلس الغرب هي آخر حلقة من سلسلة حياة الدولة فيحلون هذه العقدة ثم يستأمنون للدهر متعامين عن فلتات سياسة أوروبا القائمة بناموس بقاء الأفضل تاركين البلاد عرضة للمحن باختلال أحوالها وجهل أهلها وفقد الأمن منها.