عزوبة مستمرة وعزلة وانقطاع مما أثر في طبيعتهما وجعلهما يتشاءمان وينتقدان الهيئة الاجتماعية ويتناولان أهل الدين وأرباب العشائر والنساء والاعتقاد ويسيئان الظن بالدنيا وساكنيها.
والفرق بين العالمين هو كون شبنهاور استقل في علم الفلسفة ودراستها والتدوين فيها بخلاف المعري الذي لم يشتغل بالفلسفة من حيث هي علم وإنما كان يبحث عن أسباب الأشياء وتعليل وجودها فتخطر له خطرات حكمية تستحوذ عَلَى مخيلته وذهنه الحاد فتسبكها قريحته الشعرية في تلك القوالب لعجيبة التي تظهر من قصائده.
بقي أن نتكلم عن رسالة ملقى السبيل التي نقدمها اليوم إلى محبي الآثار العربية والمولعين بنثر شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ونظمه.
يظهر من هيئة هاته الرسالة وإنشاءها أن المعري ألفها في الدور الأخير من حياته زمن عزلته وانقطاعه (حوالي سنة 430 هـ) وقد زهد في الدنيا لكبره واقتراب أجله. فكأنه أراد الرجوع للمبادئ الدينية وسلك طريقة الوعظ والنسك وتمسك بالاعتقاد. وأين قوله زمن صغره لما كان في غزارة قواه وعنفوان شبابه:
ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةٌ ... وحق لسكانِ البسيطةِ أن يبكوا
تحطمنا الأيامُ حتى كأننا ... زجاجٌ ولكن لا يُعاد لنا سبك
ومن اعترافه بالبعث والمعاد في هاته الرسالة كقوله وفي الآخرة يكون المجمع وقوله وعند الباري تكون الزلف وهلم جرا.
أما أسلوب هذه الرسالة في مجمله فهو يشابه كثيراً لهجة الخطب البليغة ذات الفصول القصار التي كان يلقيها خطباء العرب كسحبان وائل الباهلي وقس بن ساعدة وعامر بن الطفيل وأمثالهم بأسواق الجاهلية. وإليك نموذجاً من كلام قس بن ساعدة خطيب بني إياد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم رأيته بسوق عكاظ عَلَى جمل أحكر يقول: أيها الناس اجتمعوا فاسمعوا وعوا. من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آتٍ آت. في هذه آيات محكمات. مطر ونبات. وآباءٌ وأمهات. وذاهب وآت. ونجوم تمور. وبحور لا تغور. وسقف مرفوع. ومهاد موضوع. وليل داج. وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون. أرضوا فأقاموا. أم حبسوا فناموا. يا معشر إياد. أين ثمود وعاد.