مجله المقتبس (صفحة 4443)

أبيات العادات

يقف الناظر في دواوين الأدب ومجاميع الشعر والأخبار على أبيات غامضة المعنى يشكل عليه فهمها يسميها علماء الأدب بأبيات المعاني. وقد عنوا قديماً بجمعها وتدوينها وشرح معانيها وتفسير مستغلقها إلا أن يد الضياع تلاعبت بتلك المؤلفات فلم يصل إلينا منها إلا القليل ولم نقف على هذا النوع من الشعر إلا مبعثراً مفرقاً في تضاعيف الأسفار المختلفة. أذكر أنني كنت أراجع مرة في شرح القاموس مع الأمير محمود سامي باشا البارودي فمر بنا قول القائل:

فوردت مثل اليماني الهزهازْ ... تدفع عن أعناقها بالإعجاز

فلم يتكشف لنا معناه مع إطالة الرواية وإجهاد الفكر إلا بعد أن سألنا عنه أستاذنا الإمام الشنقيطي رحمه الله فقال هذا من أبيات المعاني يذكر إبلاً وردت غديراً كالسيف الصقيل في الصفاء وقوله تدفع عن أعناقها الخ يعني أنها كثيرة الألبان ممتلئة الضروع وضروعها في إعجازها فإذا نزل الضيوف بصاحبها قراهم من لبنها فأغنى ذلك عن نحرها فتكون دفعت عن أعناقها بإعجازها قال وتمام الرجز (أعيت على مُقصدنا والرجاز) انتهى.

وقد عثرت على ضرب آخر من الشعر إن لم يكن من هذا النمط فهو منه قريب رأيت أن أجمع ما تيسر لي منه وأسميه (بأبيات العادات) وهي أبيات ظاهرة اللفظ والمعنى إلا أنها غامضة من جهة القصد والمرمى فلا يفهم مراد قائليها إلا بمعرفة عادة من عادات العرب أو مزعم من مزاعمهم بني عليه البيت كقول الخنساء في رثاء أخيها معاوية:

فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيتَ ولا عقوق

ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق

فليس في ألفاظ البيتين لفظ غريب غير مفهوم كما أن معناهما ظاهر في غاية الوضوح وإنما الإشكال في مرادها بالنعلين والرأس الحليق فإذا عرفنا أن العادة كانت عند نساء العرب إذا أصبن في حميم أن يحلقن رؤوسهن وتأخذ الواحدة منهن نعلين في يديها تصفق بهما وجهها زال عنها الإشكال واستبان لنا القصد. وفي معنى بيتي الخنساء قول عبد مناف بن ربع الهذلي:

ماذا يغير ابنتي ربع عويلها ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا

كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حَلية لا رطباً ولا نقدا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015