وهكذا أفتى من المحققين غير واحد أن لمن له معرفة بعلم هيئة الفلك أن يعمل بحسابه في صوم رمضان والفطر منه بل أفتى تقي الدين السبكي لما كان قاضي القضاة بدمشق في رسالة سماها (العلم المنشور في إثبات الشهور) إن من شهد برؤية الهلال في رمضان أو ذي الحجة مثلاً ودل الحساب على أنه لا تمكن رؤيته أن تلك الشهادة ترد (قال) لأنه أقوى من الريبة لأنه مستحيل عادة، وبين رحمه الله في هذه الرسالة ما يجب على القاضي من التثبت في ذلك وما ينبغي له من الإلمام بعلم الهيئة والميقات أو تقليد من يثق به في ذلك ليكون على بصيرة مما يقبل من الشهادة في ذلك أو يرد.
ورسالته هذه من أنفس الرسائل المضنون بها.
وبالجملة فحاجيات الفنون الرياضية في الأقضية والأحكام وفي العبادات والمعاملات أوسع من أن يدخلها الحصر ولا غنى للقاضي والمفتي عن الإلمام بها كما أوضحنا.
تحري المفتي في مسائل الطلاق المجمع عليه والأقوى دليلاً
مما يجب على كل مفت - بمعنييه الخاص والعام - أن يتحرى ويتروى ويحتاط في مسائل الطلاق ما أجمع على وقوعه أو قوى الدليل فيه معقولاً أو منقولاً وأما التسرع بالفتوى بحل العصمة لمجرد قول غير مجمع عليه أو المدرك في سواه أو قول الصحب والتابعين رضوان الله عليهم على خلافه - هذا التسرع من الأمور التي جرت الويلات على كثير من العائلات وكم أفضت إلى التحيل بما لا يرضاه الشارع ولا يلتقي مع أصول ملته السمحاء، ومن العجيب أن صور الحلف بالطلاق وأنواع التعاليق فيه التي أفردت لها تآليف خاصة وأفعمت بطون الأسفار لا ترى منها مسألة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا واقعة مأثورة عن الصحب رضوان الله عليهم لأنها مما حدثت بعد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في بعض فتاويه لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل كان معها التحليف بالحج تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان وتكلموا في بعضها على ذلك فمنهم من قال إذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال لا يلزمه إلا الطلاق والعتاق ومنهم من قال بل هذا من جنس إيمان أهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال بل هي من ايمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر ايمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس