تكاد تكون قاعدة لا تتخلف أن من فقد إحدى حواسه تقوى فيه غيرها فمن فقد بصره مثلاً تقوى ذاكرته ومن فقد سمعه يشتد إدراكه. ولما قرأت ترجمة هوميروس الشاعر اليوناني وعلمت أنه كان ضريراً وقرأت ترجمة ملتون الشاعر الإنكليزي وعلمت أنه كان كذلك وقرأت ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر العربي وقلت أنه كان مثلهما وقرأت ترجمة ابن الحناط وقع في نفسي أن أكتب مقالاً في عميان صنفوا وأجادوا أيام كان العرب يؤلفون ويجيدون.
فمنهم قتادة بن دعامة كان اكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطأ فإنه ما وصل إلى سمعي شيء قاداه إلى قلبي فنسيه. وكذلك كان بشار بن برد رأس طبقة شعراء المولدين اكمه وغاية في ذكائه وتوقد خاطره. وكان ابن الثمانيني نحوياً ألف فيه وانتفع بالاشتغال عليه جمع كثير توفي سنة 442 هجرية وكان شمس الدين بن جابر الأندلسي ضريراً وهو صاحب بديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها شرح ألفية بن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر جيد توفي سنة 780. وكان أبو بكر بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس أخذ عنه صناعة الأدب جماعة منهم الرمادي الشاعر القرطبي المشهور. وكان أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي حافظاً للآداب إماماً في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعداً مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق عرف كل منصف حقه.
وكان العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني والعقيلة وغيرهما المقري الفقيه الحافظ من كبار أئمة الإسلام مكفوف البصر قوي الحفظ وكان يقول عند دخوله إلى مصر أنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان عالماً بكتاب الله قراءة وتفسيراً وبحديث رسوله مبرزاً فيه وكان إذا قرأ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وهو أوحد في النحو واللغة. وكان أبو البقاء العكبري شارح ديوان المتنبي وغيره من الكتب الجيدة مكفوف البصر حاسباً فرضياً نحوياً ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه وكان الغالب عليه علم النحو توفي سنة 616.
وكان ابن سيده المرسي الحافظ إماماً في اللغة والعربية جمع في ذلك جموعاً منها كتاب المحكم في اللغة وكتاب المخصص الذي طبع حديثاً وله غيره من الكتب الممتعة التي لم يؤلف في فنها مثلها وكان ضريراً وأبوه ضريراً أيضاً وكان أبوه قيماً بعلم اللغة وعليه