مجله المقتبس (صفحة 3097)

الشريفة. وكلما ارتقت الحضارة في شعب ينبع فيه رجال يصرفون على الإفادة والاستفادة نقد أعمارهم ويتمحصون لإحسان الخدمة حتى لا يكادون يرون السعادة والملاذ والخير وكل ما تطمح إليه نفوس بني الإنسان من المعالي رإلا فيما هم بسبيله.

ومن أنعم النظر في تراجم نوابغ العلماء ودرس حياتهم حق دراستها لا يلبث أن يزول عجبه إذا شاهد كيف كانوا يستغرقون في أعمالهم ويتفانون فيما أخذوا به نفوسهم فيزهدون في المال والبنين ويفطمون أنفسهم عن حب المناصب والمراتب والزخارف والسفاسف.

كنا ذات يوم نذكر لأحد أصدقائنا من الأطباء الذين صرفوا شطراً من حياتهم في الغرب اتساع التأليف في هذه الأمة قديماً فقال أما ما يبلغكم عن أكثر المؤلفين في الغرب اليوم من كثرة المصنفات فليس لأكثرهم منه إلا النظر القليل يكتبه لهم أذكياء المتخرجين بهم بعد أن يكونوا ثقفوا عنهم بعض ماله علاقة في الموضوع الذي ألفوا فيه حتى إذا أتوا على آخره يدفعونه إلى أساتذتهم فيجيلون فيه أنظارهم ويمثلونه للطبع مفتتحاً بأسمائهم والمصنف منهم من يذكر أن تلميذه فلان أعانه في التأليف وبعضهم يضنون بمثل هذه الإشارة.

ولما أوردنا أسماء كثير ممن اشتهروا في الإسلام وألفوا التواليف الممتعة الضخمة وعنوا وحدهم في الأكثر بجمعها وتنسيقها وتصنيفها وتبييضها وتسويدها وإن ما أثر عنهم كان مردوداً لو لم يرد على لسان أهل العدل والصدق من المؤرخين وعلماء التراجم وبعضهم قد يكذبون من أضدادهم وحاسيدهم - عند ذلك اقتنع صاحبنا بصحة رأينا وقال أن حال الإفرنج اليوم يخالف حال سلفنا فإن الإفرنجي مهما بلغ من حبه الحكمة وتفانيه في خدمة المعارف يقتطع له أوقاتاً لراحته وإدخال الفرح على قلبه لينشط إلى متابعة السير في عمله أما الشرقي فإنه يفرط فيما تمحض له فحاله إما تعب ليس وراءه غاية أو راحة ما بعد ورائها وراءٌ.

افتح أي كتاب من كتب التراجم ولاسيما تراجم أهل القرون الستة الأولى للإسلام تسقط على مبلغ عناية رجالنا بالتأليف وتوفرهم على النفع وقد يظن أن معظم ما خلفوه من كتبهم هو ديني محض ولا أثر لهم في العلوم الدنيوية ولكن هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً لأن جماهير المؤلفين المجيدين لم يكونوا متمكنين من علوم الدين بإغفال علوم الدنيا بل إنهم كانوا يعتقدون بأن العلوم بأسرها نافعة في الدارين وما نفع في هذه الأولى كان خليقاً بأن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015