لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم أن يحيل بعضهم عَلَى بعض أو يستشير بعضهم بعضاً في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم ولا سيما فيما يحتاج فيه إلى العمل بالاجتهاد والرأي.
لما كانت الشرائع مبنية عَلَى درءِ المفاسد وجلب المصالح والشريعة الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقد سن الشارع إيقاف العمل بالنص مراعاة للمصلحة ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها عَلَى وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة تترتب عَلَى العدول عن النص أكبر من المصلحة التي تترتب عَلَى العدل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون من بعده فكان ذلك شرعاً أيضاً فيه تيسير عظيم على المسلمين واليكم الدليل.
في حديث لأبي داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وأنتم تعمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي نهى عن إقامته في حال مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة وهي لحاق صاحبه بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.
وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها الضرورة
جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه حمية الكفار.
وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن غلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له أن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة واقروا عَلَى أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم نكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت يديهم وايم الله أن لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أُريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر (أي عبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمانمائة.