شعر أبي الطيب قرئت عليّ أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصح من الأصل الذي كتبت منه فقلت له: أين وجدته قال هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا وكنا في المسجد في زاوية فقلت له: أين هو فقال لي: عن يمينك فعلمت أنه يريد الشيخ فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت كان يملي عليَّ من حفظه فجعلت أتعجب فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما فأخبره ولده بالخبر فلما رأى تعجبي قال: بعيداً أن تفلحوا يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي والله لقد أدركت أقواماً لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظاً ولا يرونه مجتهداً.
ومن نظر فيما أُثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقاً كثيرة وكنت قرأت في الاستقصا أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد المغرب في البحر بأسطوله الغريق وكان مؤلفاً من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء والعلماء والكتاب والإشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة.
وقيل أن صدر الدين بن الوكيل ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوماً وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة.
وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ اشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية لأشعار والأخبار قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساءِ اشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم فقالوا له: بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن (أرق على أرق ومثلي يأرق) وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الإشراف باشبيلية وحوله أدباءٌ ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكورة فمنعه من أحد الأدباء فقال: